مبادي الايمان

اشارة

نام كتاب: مبادئ الايمان

موضوع: موضوعات مختلف

نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، محمد حسين بن على بن محمد رضا

تاريخ وفات مؤلف: 1373 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 1

ناشر: مؤسسه كاشف الغطاء

تاريخ نشر: ه ق

ص: 1

[مقدمات التحقيق]

[هوية الكتاب]

ص: 2

مبادئ الأيمان

بقلم

فقيد الشرق الامام

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

نشره و قدم له نجله الاستاذ

عبد الحليم آل كاشف الغطاء

ص: 3

الاهداء

الى روح الفقيد الوالد تلك الروح السامية التي انصفت بالفكر النير و الذهن المتوقد و العلم الغزير، و الأدب الرفيع، و العاطفة المشبوبة و صفاء النفس، و حب الخير و قوة الايمان، و النشاط و الحماس للعمل الصالح و الشجاعة الفائقة في قول الحق و الثورة على الظلم. اهدي هذا الكتاب الذي هو منه و اليه آملًا من اللّه الأجر و الثواب.

الناشر

ص: 4

ص: 5

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*

مقدمة الناشر

اشارة

كان المرحوم الفقيد الوالد حجة الإسلام الامام محمد الحسين آل كاشف الغطاء طاب ثراه، قد الف كتاباً مبسطاً موجزاً لطلاب المدارس في اصول الدين و فروعه سماه (الدروس الدينية) و نظراً لحاجة الناشئة و الملأ لهذا النوع من الكتب رأيت نشر الكتاب، و اتماماً للفائدة اضفت الى اصل الكتاب مواضيع هامة و واضحة من كتب اخرى للفقيد. و كتبت مقدمتين بقلمي للكتاب املا في افادة القارئ و التمهيد للكتاب و سميت الكتاب (مبادئ الايمان) لموافقته لأبحاث الكتاب و من اللّه نسأل التوفيق للسداد و الصواب.

مدرسة الامام كاشف الغطاء

النجف الأشرف

30 ربيع الأول 1378 ه 14 تشرين الاول 1958 م

عبد الحليم آل كاشف الغطاء

ص: 6

دعوة الى الايمان

يسود القلق العالم في العصر الحاضر لأسباب كثيرة كالضوضاء و ازدحام السكان و الحرب و الفقر و التنافس و النزاع القومي و الطبقي و غير ذلك. و يسود القلق المجتمع الشرقي بصورة اشد، بسبب الانحلال الخلقي الذي يسوده بالاضافة الى العوامل الاخرى المختلفة.

و هذا الانحلال الخلقي و ان كان من اسبابه الفقر و الجهل و التأخر، و لكن السبب الاساسي له الشك الذي نتج عن ضعف الوازع الديني في الشرق، ذلك الوازع الذي كان يحفز الناس الى النشاط و عمل الخير و يساعد في تنظيم شئونهم بدون قوة قاهرة.

بما ان العقل الانساني يمتاز بسموه و شدة التفكير فيه، و غلبة الفكر على الحس و الشهوة و الغريزة، نجد الانسان المتمدن في حاجة شديدة الى الايمان بفكرة و عقيدة، و يتفق جميع علماء النفس و الاجتماع على حاجة الانسان الى الايمان بفكرة، و بدون هذا الايمان يصبح شخصاً بهيمياً تتغلب فيه الشهوة و الغريزة على الفكر و المثل العليا.

و لا مجال هنا لشرح الاسباب التي تبعث الانسان الى الايمان، و لكن اعتقد ان اهم الاسباب هو ان الانسان عند ما يفكر و يعلم انه غير خالد في هذه الحياة يرى بصورة واعية او غير واعية من الهوان عليه و الاحتقار لنفسه ان لا يكون لوجوده معنى و غاية، و يرى ان من الاحترام لنفسه و التقدير لها ان يجعل وجوده نافعاً للآخرين كالشجرة المثمرة. و عند ما يساهم الفرد في المجتمع بالعمل النافع للجميع يؤدي عمله ذلك في نفس الوقت الى التقدم و العمران و تكوين مجتمع ارقى و افضل في المستقبل و بذلك لا يكون وجوده عبثاً بل لغاية سامية ارادها اللّه منذ الأزل، أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لٰا تُرْجَعُونَ، وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلّٰا لِيَعْبُدُونِ، وَ ابْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اللّٰهُ الدّٰارَ الْآخِرَةَ وَ لٰا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيٰا، وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَ تَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ، وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ و في القرآن الكريم و احاديث النبي" ص"

ص: 7

و اخبار اهل بيته نصوص كثيرة تؤكد ضرورة الايمان اولًا و العمل الصالح ثانياً. و الانسان يظل في شقاء و تعاسة ما دام انانياً يفكر في نفسه، و ما دام يرى انه مركز العالم كما يفكر الاطفال و يسعد عند ما يخرج من انطوائه و عزلته، و يعلم انه خلق للعالم و الوجود و انه وسيلة و غاية، و عند ما يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

لا ننكر ان الدين قد ضعف في المجتمع الغربي و ان لم يزل، و لكن قد نشأت فيه آراء و عقائد جديدة كونت مجتمعاً مترابطاً كالنزعة القومية و الوطنية و الانسانية و المبدأ الديمقراطي و الاشتراكي و الفلسفات الحديثة المختلفة، و لا شك ان اقوى الروابط في العصر الحاضر هي الرابطة القومية التي بلغت مع الاسف حد التطرّف احياناً.

و الشعوب الشرقية لا تزال تجتاز مرحلة انتقال و تبلور، لذلك نجدها متبلبلة الرأي يسودها الكفر و القلق و الانحلال، و تركت محاسن القديم و محاسن الحديث و اخذت مساوئ الطريقين.

و العلاج الناجع لشعوب الشرق هو الاحتفاظ بميزاتها الحسنة و الايمان بعقائدها السليمة بدون جمود و تزمت مع اقتباس علوم الغرب و صناعته و اتباعه في عاداته و اخلاقه الحسنة كالتنظيم و العمل و المثابرة و ترك عاداته السيئة و تجنب مشاكله الاجتماعية فان العاقل من اتعظ بغيره و استفاد من تجارب غيره. و اذا تأملنا في الآراء و العقائد الغربية نجد الاسلام الصحيح جامعاً لها قاطبة. فانصح من حاد عن الاسلام ان يعود اليه و من آمن به أن يشتد ايمانه و يقوى. و يجب على المسلمين ان يعلموا ان تأخّرهم لا يعود الى الاسلام بل لاسباب تاريخية و لاختلافهم و ضعف ايمانهم و الدليل على ذلك ان الاسلام لم يعقهم في السابق عن التمدن و الحضارة.

عبد الحليم آل كاشف الغطاء

ص: 8

الدين و الحقيقة

سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي الْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ

منذ آلاف السنين بهر الانسان هذا الوجود بتنوعه و غموضه و جماله و نظامه، و نظراً لما امتاز به الانسان من مزايا جسمية و مواهب عقلية بدأ تارة يحاول ان يتفهم اسرار الظواهر الطبيعية و الاشياء و منافعها، كل ظاهرة و كل شي ء منفصلًا عن غيره، و تارة يحاول ان يعطي تفسيرات عامة تربط بين الاشياء و الظواهر المختلفة، و يعد مرور آلاف من السنين في البحث تمكن في الوقت الحاضر ان يتعرف على بعض الحقائق الجزئية التي استعان بها لمنفعته، و لكن لم يستطع التعمق و الوصول الى الاسرار البعيدة الا قليلًا، و الاسئلة العامة التي عرضها فلاسفة اليونان الاقدمون لا تزال محل البحث و الجدل، واهم تلك الاسئلة العويصة، كان عن سر الوجود بأجمعه ارضه و سمائه، و عن الجوهر الذي انبثق منه الوجود، و عمن نظّم هذا الكون و اعطاه الجمال، و عن سر الحياة، و عن نهاية الكون و الحياة و عن سر الزمان و المكان و المادة.

يمكن ان نحصر تراث الانسان الفكري، و جميع انواع المعارف التي انتجتها حضارة الانسان في اربعة اقسام: الدين و الفلسفة و العلم و الفن، العالم يدرس جزءاً محدوداً من الكون، يأخذ ظاهرة معينة او شيئاً معيناً، و يبحث عن العوامل التي تؤثر فيها، و يوضح لنا كيفية حدوث الاشياء و الظواهر، و يقتصر على الاسباب، و لا يعني بالعلل البعيدة، و لا يخبرنا عن الأشياء بذاتها بل يرمز عنها، و لا يطلب من العالم ان يبين الروابط بين اجزاء الكون، فهو يجزء الموجود و يفصل بعضها عن البعض الآخر ليسهل عليه درسها و ملاحظتها، و يعتمد العالم في الدرجة الاولى للوصول الى المعرفة على الحواس و الآلات و المقاييس مع اعمال الفكر للاستقراء و المقارنة، و ينتقل من الجزئيات الى الكليات، و يصنف المعلومات التي يحصل عليها بالطريقة المذكورة.

هناك حاجة للربط بين جميع الحقائق التي توصل اليها العلماء، هناك ضرورة للنظر الى جميع الاشياء الملاحظة ككل واحد.

فمن المعلوم ان الاجزاء في كثير من الاحوال عند ما تجتمع تعطي معنى يختلف عن معاني الاجزاء منفردة، مثلًا السيارة تختلف في معناها عن معنى الاجزاء المكونة لها. و عند ما يتحد عنصر الكلور مع عنصر الصوديوم يركبان ملح الطعام الذي يختلف في خواصه و صفاته عن عنصريه فعلى الفيلسوف ان يربط اكتشافات العالم مع الهام الفنان، و انفعالات المحب، و حماسة المصلح الاجتماعي، و الوازع الاخلاقي للرجل العادي، ليعطي لهذه الاجزاء معنى جديداً يفسر فيه الوجود و الحياة، العالم يعتمد في الدرجة الاولى على الحواس، و الفيلسوف يعتمد على التفكير مع اعطاء الحرية التامة للفكر في فرضياته و نظرياته.

منذ ايام اليونان، انقسم الفلاسفة الى طائفتين مع اختلاف في مذاهب كل طائفة، فطائفة ذهبت الى أن المادة هي اصل الكون، و الحياة او العقل ناتج عن تفاعلات المادة و تغيراتها

ص: 9

و قالوا: بما ان المادة نستطيع ان ندركها بحواسنا فإليها تعود حقيقة الوجود. اما الطائفة الثانية فلا ترضى بهذا التعليل الناقص غير الدقيق و تعتبر الفلاسفة الماديين كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء، و تقول بما ان وجود كل ما نتأمله يستلزم العقل، فالعقل هو اصل المحسوسات، و المادة لا تستطيع ان تولد العقل ما لم تكن من جوهر العقل و حقيقته لأن فاقد الشي ء لا يعطيه. و كيف جاز للماديين ان يجعلوا الطبيعة قادرة على خلق العقل و جردوها منه ملايين ملايين السنين قبل ظهور الانسان، فحقيقة الاشياء هي عقلية او روحية، و الظواهر المادية ليست الا نتيجة للطريقة التي تتخذها الحقيقة الروحية للظهور، او كما يقول العالم الفيزيائي ادينكتون: (إن الظواهر المادية نتيجة للتجريد او العزل الذي يلجأ اليه عقلنا في التعرف على الروحية التي تتضمن تلك الظواهر) أي ان الاشياء واحدة في طبيعتها و لكن عقلنا يظهرها بمظاهر مختلفة تبعاً للطريقة التي تحس بها السمع و البصر، و الشم و الذوق و اللمس و غيرها.

او تختلف الاشياء في الصفات لا الذات كالشكل و اللون و الكثافة و غيرها من الصفات، اما المذهب الثالث و هو مذهب الشك الذي ينكر الوصول الى الحقيقة فمؤيدوه قليل، لأن الانسان يكره الشك و يبعثه الى القلق و يشله و لا يوحي النشاط و الحماس.

و لا اريد في هذا المقال ان الخص تاريخ الفلسفة و لكن غرضي ان اختصر الادلة الى وجود اللّه و صحة الفلسفة المثالية الروحانية على الاجمال ثمّ اشرح نظرية وحدة الوجود المشهورة متوخياً البساطة و الوضوح في التعبير، لأني رأيتها حسب فكري و معلوماتي، ادق نظرية عن حقيقة الوجود لموافقتها للعلم و الدين و الفلسفة الحديثة، و النظريات العلمية الحديثة كالنظرية النسبية لأنشتاين و نظرية الكم لبلانك.

ان الدين لا ينكر على العلم اهمية حقائقه الجزئية، و لا يمنع الفلاسفة عن الجدل و المناظرة و التفكير، و لكنه يرى ان الوصول للحقيقة النهائية عن طريق الحس و العقل وحدهما، يؤدي الى الالتباس، بالاضافة الى هذين الطريقين ينبغي ان نستعين بطرق اخرى، ذات صلة باعماق النفس الانسانية و باطن الفرد، مثل التنبؤ و النظر الغيبي و الالهام و الوحي الالهي و التجلي، و البداهة و القناعة الذاتية.

ان الدين يؤمن ايماناً تامّاً عن هذا الطريق، بأن اللّه هو اصل الوجود، و سواء جاءت ابحاث العلماء و الفلاسفة مؤيدة له ام لا؟ فهو لا يكترث لها، لأن آراءهم عرضة للتغير و التبدل، يقول الدين: ان العالم بموجوداته المتنوعة من بحار و انهار و اشجار و جبال و حيوانات و مواد مختلفة، توحي الينا بالبداهة و لأول وهلة انها ليست الّا صوراً لحقيقة واحدة هي اللّه.

(و في كل شي ء له آية تدل على انه الواحد)

كما انك تتنبأ عن اخلاق شخص عند ما تجتمع به لأول مرة من تفرسك في بريق عينيه و ملامح وجهه و تصيب في اكثر الاحيان، كذلك من نظرة عاجلة لهذا الوجود نعرف ماهيته و حقيقته، اما اذا اردنا ان نوسوس فاننا نفقد الصواب.

عند ما يتأمل الفرد في نفسه، في تفكيره و انفعالاته و آماله و آلامه، و حيويته و غرائزه يجد انه لا يعبر عن ارادته، بل عن الارادة العامة للوجود التي تسيره كما شاءت. هنالك نواح لا نستطيع ان ندركها عن طريق العلم مثل معرفتنا بنفوسنا، و معرفة العدل و الجمال، و معرفة الفكاهة و المزاح، و معرفة اخلاق شخص آخر و انما نعرفها باللقانة (noitiutni) كذلك نعرف الحقيقة النهائية عن هذا الطريق أي الحدس و الالهام.

ص: 10

و الفن ذو صلة بالحقيقة الكلية، فالفنان لا يصور الوجود كما هو و يعبر عنه فحسب، بل يظهره بشكله الأكمل و يحاول أن يسمو بالحياة و ينظر الى الافق البعيد و يتطلع الى المستقبل القادم و يسعى الى تحسين الحياة و يوجهها الى التقدم و الكمال، و يعرف افلاطون الفن بأنه الكلي ممثلًا في الجزئي، و نحن نتذوق الفن كالموسيقى و الغناء و التصوير و الشعر و الأدب عن طريق اللقانة ايضاً.

في القرن التاسع عشر انخدع الناس و اصابهم الغرور للتقدم و التوسع الذي حصل في مختلف العلوم كالكيمياء و الفيزياء، و الاحياء و الفلك، و طبقات الأرض و نشطت لذلك الفلسفة المادية، و آمن بعض الفلاسفة و العلماء مع الأسف، مثل ارنست هيكل و بخنر و هكسلي و سبنسر، بالتطور الذي حدث في الاحياء و الجمادات كأحسن تفسير للعالم، مع ان التطور لا يخرج عن مجال العلم و يبين لنا فقط الادوار التي مرت على الأرض و الاحياء. و خلاصة نظرية التطور العضوي ان اصل الأحياء كائنات حية بسيطة تطورت خلال ملايين السنين الى احياء راقية معقدة، و كانت بعض الأنواع تنقرض و تنشأ انواع جديدة تختلف عن اصولها لأسباب غير معلومة تماماً في الوقت الحاضر، و تبقى بعض الأنواع محافظة على وجودها و لكن التطور نفسه يحتاج الى تفسير، فما سره و ما غايته و ما نهايته و لا يوضح التطور اصل الوجود، فما هو الأصل الذي نشأت منه الأشياء هل هو النور او الهواء او الماء او الهيدروجين ام غيرها.

و المتعمق في الدين يعرف ان نظرية التطور لا تعارض الدين بل تؤيده. ان نظرية التطور تقول: ان كل شي ء في الوجود من اشياء و احياء معرضة دائماً للتغير و الدين يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلٰالِ وَ الْإِكْرٰامِ، الدين يقول: ان الثبات و الخلود لله تعالى شأنه، و الاشياء كلها متغيرة او فانية اما ان يكون لها وجود مؤقت في الحاضر، او معدومة في الحقيقة و الوجود لله وحده لا شريك له، و بقاؤها على حالها او تغيرها او فناؤها و رجوعها اليه منوط بإرادته. فالله قد جعل التطور في الطبيعة و لو اراد ان يوقف التطور لقدر و فعل، و الطبيعة من اللّه و تطورها منه.

فالدين لم ينشأ منذ القدم بسبب الخوف و الرجاء، الخوف من شرور الطبيعة و الرجاء من اللّه في دفعها، كما ظنَّ بعض الكتّاب و المؤرخين و لم ينشأ لخدع الجماهير و صرفها عن واقعها الاجتماعي المر، بل نشأ كالفلسفة و العلم للوصول الى الحقيقة، و البحث عنها و سار مع العلم و الفلسفة دوماً.

و ما نجد عند اهل الدين احياناً من اعمال و طقوس و آراء تتعارض مع الحقيقة بصورة اكيدة فهي طارئة على الدين و ليست من جوهره.

واهم الادلة على اثبات الصانع و وجود اللّه و ان الطبيعة المحسوسة ليست اصل الوجود ما يأتي:

(1) برهان الخلق و خلاصته ان كل موجود و كل شي ء من مادة و طاقة و احياء يتوقف وجوده على غيره من الموجودات و هذا يتوقف على غيره دون ان نرى ضرورة وجوده لذاته. و هذه الظاهرة في الاشياء ادت الى التركيب و التعقيد الشديد في الوجود و ارتباط الموجودات مع بعضها، فلا بد اذن لهذه الموجودات من سبب لوجودها لا يتوقف وجوده على وجود آخر، و يعبر عنه في الفلسفة و علم الكلام بواجب الوجود او اللّه، اما الأشياء فممكنة الوجود.

ص: 11

(2) مع ما نلاحظ في الوجود من تنوع و تعقيد، و تغير مستمر، تحليل يعقبه تركيب، و تركيب يعقبه تحليل. نلاحظ ايضاً ان النظام يسود العالم و التغير الذي يحدث في الطبيعة في الغالب تغير بطي ء، و التغير السريع نادر و اقل حدوثاً، فالله يحفظ الوجود غالباً و يغيره تارة و يفنيه تارة اخرى.

(3) الجمال يسود العالم و نعيه و نحس به كالنور و الألوان الجميلة و الاصوات الجميلة و جمال الطبيعة و جمال الاحياء، و الجمال مرتبط بالنظام.

(4) خوارق العقل الانساني المنجلية في اكتناه الفكر لأسرار الكون و في الرؤيا الصادقة المنبئة عن حوادث الغيب و في التنويم المغناطيسي و قراءة الافكار و مناجاة الارواح.

(5) خوارق الطبيعة التي قام بها الانبياء و الاولياء و يقوم بها بعض المتصوفة في الوقت الحاضر كالمشي على النار و المشي على الماء و شفاء الامراض المستعصية و غيرها.

ص: 12

نظرية وحدة الوجود

اول من قال بهذه النظرية و شرحها بعض كهنة الديانة البرهمية الهندية و هم اصحاب فلسفة الويدانت. و قال بها اصحاب الفلسفة الافلاطونية الحديثة من فلاسفة اليونان، و اخذها الفلاسفة المسلمون من مصدرها الهندي و اليوناني و توسعوا في شرحها او توصلوا اليها بصورة مستقلة عن فلاسفة الهند و اليونان و هو الارجح، و دعا اليها عدد كبير من الشيعة و السنة و خلاصتها: ان الموجودات و جميع الأشياء و الظواهر كالمادة و الطاقة و العقل و النبات و الحيوان و الروح و العقل متشابهة في حقيقتها و ان اختلفت في الظاهر و الواقع المحسوس (الحالة الراهنة) فهي متماثلة في الحقيقة و الجوهر، و لما كانت حقيقتها واحدة ففي عالم الامكان كل شي ء يمكن ان يتحول الى نظيره بالصيرورة و التغير، فالبذرة في الواقع و الظاهر غير الشجرة التي تنشأ منها و لكنها في عالم الامكان شجرة. فعالم الامكان اوسع من عالم الواقع بكثير و يشمل الماضي و الحاضر و المستقبل اما عالم الواقع فيشمل الحاضر و الماضي. و اقدم مثالًا علمياً لتوضيح و تأييد نظرية وحدة الوجود: في السابق كان علماء الكيمياء يعرفون العنصر بأنه المادة التي لا يمكن تحليلها الى ابسط منها، و لكن ان علماء الكيمياء الآن يعلمون ان المادة تتألف من 96 عنصراً و بواسطة اطلاق انواع خاصة من الاشعاع على أي عنصر يمكن تحويله الى عنصر آخر، مثلًا امكن تحويل النتروجين الى الاوكسجين و البريليوم الى كاربون و الليثيوم الى هليوم و البلاتين الى ذهب و غير ذلك. و العناصر المشعة كاليورانيوم و الراديوم بمرور الزمن تتحلل الى عناصر اخرى. و يعرف العنصر الآن بأنه المادة التي لا يمكن تحليلها الى مادتين او اكثر بالطرق الاعتيادية. و سابقاً ظن العلماء ان المادة لا تفنى و لا تستحدث و ان المادة منفصلة عن الطاقة و اثبت العالم انيشتاين ان المادة تكافئ الطاقة و انهما حقيقة واحدة و تتحول احداهما الى الاخرى (1).

و نجد ثلاث تفسيرات لهذه النظرية من ناحية علاقتها بالله:

(1) وحدة الوجود و تعدد الموجود:

من الصعب على الانسان ان يدرك صلة اللّه بالموجودات بوضوح عن طريق الحواس و العقل. و لذلك لا بد من الاجمال و ترك التفاصيل، و هذا الرأي للنظرية يرى ان الموجودات على اختلافها هي حقائق موجودة لا ريب فيها و لكنها حقائق جزئية غير مطلقة أي انها حقائق متغيرة غير ثابتة على حالة واحدة، و شكل معين و صفات معينة و ان كانت لا تفنى فناء تامّاً و الأشياء في حقيقتها لا تخرج عن حقيقة اللّه لأن اللّه تعالى حقيقة الوجود. و اللّه يختلف عن الأشياء اختلافاً عظيماً في صفاته كما تختلف الموجودات فيما بينها اختلافاً عظيماً. فالاختلاف كبير بين الجماد و النبات و بين النبات و الحيوان و بين المادة و الطاقة، و ان كانت حقيقتها واحدة و العقل اقرب الأشياء الى اللّه، و اللّه غير منفصل عن الوجود، فالموجودات نشأت من اللّه و اللّه


1- و قد ذكر الفقيد الوالد (قدس سره) برهانيين عقليين لنظرية وحدة الوجود في الجواب على قول الحكماء (الواحد لا يصدر عنه الا الواحد) و نصهما:

ص: 13

لم ينفك عنها و لم ينعزل عنها فهو خالقها و حافظها و منظمها و محركها و مغيرها، و اللّه عالم بما يحدث في الوجود، و قادر عليه فيخلق الأشياء و الحوادث بالطرق الطبيعية الاعتيادية و بطرق خارقة للطبيعة و العادة و هي المعجزات. و احسن تعبير موجز عن هذا التفسير لوحدة الوجود قول امير المؤمنين علي بن ابي طالب" ع": (توحيده تمييزه عن خلقه و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة)، و قد قال بنظرية وحدة الوجود و تعدد الموجود كهنة الديانة الهندية الواضعون الأول لهذه النظرية و الأئمة الاثنا عشر العلويون (ع) و عدد كبير من علماء الامامية منهم نصير الدين الطوسي و العلامة الحلي و السيد حيدر الآملي و الشيخ ميثم البحراني و السيد محمد باقر الداماد و صدر الدين الشيرازي و محسن الفيض و عبد الرزاق اللاهيجي و استصوبها المرحوم الوالد الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء و شرحها شرحاً وافياً في كتاب الدين و الاسلام و كتاب الفردوس الأعلى و اعتبرها متفقة و الشرع الحنيف و مؤيدة له.

و قد عبر عن هذا الرأي احد كهنة فلسفة الويدانت الهندية عن هذه النظرية بما يلي:

هذا الكون كله ليس الّا ظهوراً للوجود الحقيقي الاساسي و ان الشمس و القمر و جميع جهات العالم و جميع العالم و جميع ارواح الموجودات اجزاء و مظاهر لذلك الوجود المحيط المطلق. ان الحياة و جميع كيفياتها و صفاتها و حركاتها و اعمالها اشكال لتلك القوة الوحيدة الاصلية.

هذه القوة هي التي اشعلت الشمس فهي تتقد ناراً كحزمة الحطب و تهبنا الحرارة و النور و ان السحاب لا يمطر بل انما هي تلك العلة الاساسية التي تمطر بواسطة السحاب، تتقارب الموجودات و تتكاثر و لكنها العلة الاولى التي لا تزال تتكاثر بواسطتها و ان الجبال و البحار و الانهار و الاشجار و النباتات و جواهرها التي تحمل حياتها كل ذلك تفجر من ذلك الروح المحيط الذي يستقر في سائر الاشياء و في قلوبنا. تفقه هذا يا ولدي العزيز و اقطع قيود الجهل التي تقيدك (1).

و في القرآن و السنة اشارات كثيرة الى هذه النظرية. و حسب هذا الرأي تعتبر الاشياء موجودات حقيقية (2) و حقيقة اللّه و حقيقتها واحدة و ان اختلفت في الشدة و الضعف و الصفات و النوع او الكم و الكيف، و ان جعلناها مختلفة عن حقيقة اللّه اختلافاً تامّاً وقعنا في الشرك و تعدد القدماء. و الموجودات مع عدم بقائها و تغيرها لها حظ من الوجود و الحقيقة في الحال، لأنها تحافظ على بقائها مدة من الزمن و نلاحظها عند ما تتغير لا تفنى فناء تامّاً بل تتغير من حالة الى اخرى. و يعتبر هذا التفسير اللّه اوسع من الموجودات و اوسع من العالم كله.

(2) وحدة الوجود و وحدة الموجود:

الصلة قوية بين الرأي الاول و الثاني و لا يوجد تعارض واضح بينهما و الرأي الاول اقرب الى الشرع و العلم. الرأي الاول يقول ان الموجودات و ان نشأت من اللّه فهي مخلوقات قاصرة


1- عن و مقالة ويدانت في مجلة ثقافة الهند عدد يونيو 1951.
2- يقصد بكلمة حقيقي او الحقيقة كل ما هو موجود في الخارج مستقلًا عن حواس الانسان و فكره أي ضد كل ما هو نفسي او خيالي، و تستعمل للصدق ضد الكذب أي لما حدث او يحدث صدقاً. اما الحقيقة المطلقة فلها معنى ادق المخصصة بما يلي:

ص: 14

تختلف عنه كثيراً و مسيرة بإرادة اللّه. و الرأي الثاني يقول بما ان اللّه لا يحده زمان و لا مكان فلا وجود لغير اللّه و هو يظهر في كل مكان و كل زمان بمظاهر مختلفة فالوجود و الموجود هو اللّه تعالى فكل شي ء من الموجودات ليس جزء من اللّه بل اللّه بعينه و انما الاختلاف الذي يظهر لنا بين الموجودات اما اختلاف في المظهر الذي يظهر فيه اللّه، و أما ناشئ عن عقلنا و حواسنا التي تسبب هذا الاختلاف. و الموجودات في الحقيقة غير قاصرة و صفات اللّه كامنة فيها و لذلك نشأ منها العقل و الروح. و بإمكان الانسان بالايمان و التوجه الى اللّه ان يقترب من اللّه و ان يقوم ببعض الكرامات و الخوارق.

الرأي الاول يعتبر الموجود مؤلفاً من ذات و صفات، و الذات الذي فيه جزء من اللّه و الصفات وهبها اللّه، و للشي ء وجود في الحال و الوقت الحاضر.

اما الرأي الثاني فيقول ان الموجود مجرد صفات لا غير اظهرها اللّه و ليس الموجود جزء من اللّه و ليس له وجود في الوقت الحاضر و ان المقصود من قوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ فان في الحال لأن المشتق حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال. و المقصود بكلمة (باطل) في بيت الشاعر لبيد:

الا كل شي ء ما خلا اللّه باطل و كل نعيم لا محالة زائل

هو العدم في الحال ايضاً لا الاستقبال.

و يشبّه اصحاب الرأي الثاني الوجود بالبحر و الموجودات بأمواج البحر، و اصحاب الرأي الأول يشبهون الموجودات بأجزاء من البحر قد تغيرت عن اصلها.

و قد عبّر المرحوم الوالد عن الرأي الثاني و هو وحدة الوجود و الموجود بما يلي: الوجود واحد و الموجود واحد له ظهورات و تطورات يتراءى انها كثرات و ليس الا الذات و مظاهر الأسماء و الصفات و شئون الجمال و الجلال و القهر و اللطف.

ص: 15

و قد عبر عن هذا الرأي المتصوف الكبير محيي الدين ابن العربي بتغيير كلمة في البيت المشهور:

و في كل شي ء له آية تدل على انه الواحد

***** فقال تدل على انه عينه و توصل الى ما هو اصرح فقال:

سبحان من حجب ناسوته نور سنا لاهوته الثاقب

ثمّ بدا في خلقه بارزاً بصورة الآكل و الشارب

و عبّر عن ذلك الشاعر الصوفي الشهير ابن الفارض:

هو الواحد الفرد الكثير بنفسه و ليس سواه ان نظرت بدقة

بدا ظاهراً للكل في الكل بيننا نشاهده بالعين في كل ذرة

و قال ابو مدين التلمساني:

اللّه قل و ذر الوجود و ما حوى ان كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون اللّه (ان حققته) عدم على التفصيل و الاجمال

و اعلم بانك و العوالم كلها لولاه في محو و في اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته فوجوده لولاه عين محال

و العارفون فنوا به لم يشهدوا شيئاً سوى المتكبر المتعال

و رأوا سواه (على الحقيقة) هالكاً في الحال و الماضي و الاستقبال

و قال بهذا الرأي مشاهير متصوفة الاسلام كالجنيد و الشبلي و معروف الكرخي و الحلاج و الكيلاني و محيي الدين ابن العربي. و يقترب من هذا الرأي اصحاب الفلسفة الافلاطونية الحديثة و فلسفة سبينوزا الآلماني و برغسون الفرنسي و بركلي الانكليزي الذي يقول: ان انغام الكون و كل ما يؤثث هذه الارض و بالجملة فان كل هذه الاجسام التي تكون الاطار العظيم للدنيا ليس لها مادة الا في عقلنا ... و طالما انه لا يمكنني ادراكها بنفسي و لا توجد في عقلي فانها اما لا توجد اطلاقاً او انها توجد في عقل روحي ابدي.***

و آراء انشتاين قريبة لهذا الرأي و سنلخصها على حدة في هذا المقال و اقول ان الجمع بين الرأيين و التوفيق بينهما جائز. حسب الرأي الاول يمكن ان يكمن الكل في كل جزء فيتغير بصور مختلفة. و حسب الرأي الثاني الكل يظهر بصور مختلفة متعاقبة غير مقيدة بحدود الزمان و المكان.

و ينبغي ان لا يتبادر لذهن القارئ الحلول من هذه الآراء فإن الحلول الذي يخالف الشرع ان ينحصر وجود اللّه في شي ء معين او في شخص معين كالمسيح مثلًا او أحد الائمة اما الحلول بمعنى ان اللّه موجود في كل مكان فهو من صفات الكمال لله و يلزم الاعتقاد به.

(3) الموجود هو الوجود الواجب:

هذا الرأي يعتبر الموجودات هي الوجود الواجب، و العوالم المحسوسة و المعقولة بأجمعها تطوراته و تشكلاته، و وجود اللّه يتمثل في هذه الموجودات و هذا الرأي و ان كان يقول بوحدة الوجود لكن لا يختلف عن آراء الماديين فهو كفر بالله و ضلال لأنه لا يجعل لله وجوداً مستقلًا قائماً بذاته مهيمناً على الموجودات و منظما لها. كما انه لا يفسر الوجود، فالموجودات اذا كانت حقيقة كاملة ينبغي ان لا يعتريها التغير و هذا الرأي لا يستطيع ان يفسر سر التغير

ص: 16

المستمر في الوجود ذلك التغير الذي لا يتوقف و اذا كانت الموجودات حقيقة كاملة فمعنى ذلك ان لم يكن الوجود ثابتاً غير متغير فلا بد أن يأتي وقت يتوقف فيه التغير و العلم لا يؤيد ذلك.

موجز آراء انشتاين عن الوجود

تقسم آراء انشتاين عن الوجود الى ثلاثة اقسام:

(1) النسبية الخاصة. (2) النسبية العامة. (3) المجال الموحد.

و سأشرح هذه الآراء بايجاز لأوضح اتفاق هذه الآراء مع الفلسفة الاسلامية.

(1) النسبية الخاصة:

ان معنى كلمة نسبي (RELATIVE) ان وجود أي شي ء و نوعه يرتبط بغيره و يتوقف وجوده على غيره، أي ان كل شي ء غير ثابت على حالة واحدة و متغير في صفاته. و هذا التغير لا يقتصر على النوع و الكيف بل يتعدى ذلك الى المقدار و الكمية فكمية كل شي ء غير ثابتة بل متغيرة حسب الظروف و الاحوال و العلاقات. و هذا عين ما ذكرناه عن فكرة واجب الوجود في الدين.

في النسبية الخاصة يبين نسبية الحركة و الزمان و المكان و الكتلة (المادة) فبين ان الحركة نسبية و مرتبطة بالظروف لسببين:

اولًا: ان الانسان لا يشعر بالحركة فالشخص الذي يجلس في باخرة تسير بسرعة ثابتة في البحر لا يحس بالحركة اذا كان البحر هادئاً و يحس بها اذا هاج البحر او نظر الى الماء، و كل من ركب قطاراً يدرك كيف ان قطاراً متحركاً في الاتجاه المضاد يبدو مسرعاً. اما اذا كان القطار موازياً للقطار الذي يركبه فإنه يبدو كأنه ساكن لا يتحرك، و الراكب اذا كان قطاره في محل مقفل فإنه لا يستطيع ان يعرف حركة قطاره الا بعد الخروج من المحل المقفل و النظر الى اشياء ثابتة في الخارج.

ثانياً: عند ما نقيس سرعة الجسم نرجع الى جسم آخر ساكن يبتعد عنه الجسم المتحرك.

و لكن كيف نستطيع ان نضبط سرعة الجسم المتحرك، اذا علمنا ان السكون نسبي و لا يوجد في الكون جسم ساكن سكوناً مطلقاً. فنعتبر الارض ساكنة عند بحث الاغراض العادية للعلوم بالنسبة للسيارات و الطائرات و لكن علماء الفلك يدركون ان الارض غير ساكنة بل تدور في الفضاء بحركة دورية معقدة فإنه بجانب دورانها اليومي حول محورها بسرعة الف ميل في الساعة، و دورانها السنوي حول الشمس بسرعة عشرين ميلًا في الثانية، فإنها مشغولة بدورانات اقل اهمية. و المجموعة الشمسية كلها تتحرك ضمن مجموعة النجوم المحلية بسرعة 13 ميلًا في الثانية. و مجموعة النجوم المحلية تتحرك داخل المجرة (درب التبانة) بسرعة مائتي ميل في الثانية. و المجرات تتحرك نحو المجرات الخارجية البعيدة بسرعة مائة ميل في الثانية و الكل في اتجاهات مختلفة.

و يعتبر الزمان و المكان نوعاً من الالهام و يشبهان المدركات الحسية الأخرى كاللون و الصوت و الشكل و الحجم، و ليسا حقيقة مطلقة لها وجود في الخارج بل وجودهما ذهني، و لا يمكن اعتبارهما في المعادلات الرياضية الدقيقة كميتين ثابتتين مثل ثبوت سرعة النور بل كمية متغيرة، و المكان نظام للأشياء فاذا لم يوجد جسم لا يوجد مكان. و الزمان نظام للحوادث فاذا لم يوجد حادثة لا يوجد زمان. و اوضح ان كل ساعة مهما كان نوعها رملية او ذات بندول او ساعة جيب، اذا كانت متحركة تؤخر كلما زادت سرعة حركتها حتى تقف اذا

ص: 17

تحركت بسرعة النور. و المسطرة تنكمش و يقل طولها في اتجاه حركتها، و هذان المثالان يوضحان نسبية الزمان و المكان.

و كما بين انشتاين ان الزمن و المكان كميتان نسبيتان برهن ان كتلة الجسم نسبية ايضاً و تتغير حسب حركته فتزداد كلما ازدادت السرعة.

و المقصود بكتلة الجسم هو غير مادة الجسم. و الكتلة هي الصفة التي تقاوم الحركة، و كلما ازدادت مادة الجسم ازدادت كتلته أي مقاومته للحركة. و عند ما تزداد سرعة الجسم تزداد مقاومته لزيادة السرعة و معادلة انشتاين الدالة على ازدياد الكتلة مع ازدياد السرعة من المعادلات المهمة و هي:

و حيث ان كتلة الجسم المتحرك تزداد بازدياد سرعته، و ان الحركة هي نوع من الطاقة (طاقة حركية) فإن مقدار الكتلة الزائدة للجسم المتحرك تنتج من طاقته الزائدة: و بالاختصار فإن للطاقة كتلة. و قد استطاع انشتاين ايجاد مقدار الكتلة المعادلة لوحدة الطاقة و قد عبر عنها بالمعادلة:

الطاقة ك في ص 2

ك: الكتلة

ص: سرعة الضوء

و ذهب الى أن الذرة لا تتحلل الى اجزائها المعروفة فحسب و هي البروتون و الالكترون و النوترون و البوزيترون بل تتحلل الى ابعد من ذلك.

و الوحدات النهائية للكون ليست المادة و لا الأثير الذي كان قد افترضه الماديون بل الحوادث الفضائية الزمانية. و الجسم الذي تظهر فيه المادة ليس الا مجموعة صفات و حيث ان الصفات يدركها العقل فإن كل الكون الموضعي المكون من مادة و طاقة و ذرات و نجوم لا توجد الا نتيجة لشعورنا و ادراكنا أي انه عبارة عن صرح من الرموز الاصطلاحية تشكله حواس الانسان. فكما ان الكلمات ترمز الى الاشياء و المعاني فكذلك احساساتنا رموز الى الحقيقة و ليست ادراكاً صحيحاً للحقيقة.

(2) النسبية العامة:

و في نظرية النسبية العامة يوضح ان الزمان متصل مع الفضاء فهو البعد الرابع للجسم. بما انه لا يوجد جسم ساكن ثابت بصورة مطلقة فلا بد ان يكون الزمان بعداً رابعاً للجسم فإن الزمان يتضح في الحركة و هي علاقة رياضية بين المسافة و الزمن. و الزمان يشبه المكان بأنه متصل يمكن تقسيمه الى ما لا نهاية له من الاقسام. فعند ما نريد ان نصف أي حادث طبيعي له صلة بالحركة لا يكفي ان نحدد الموضع في الفضاء بل ينبغي ان نذكر كيف يتغير الموضع بتغير الزمن. ففي حالة طيران طائرة من بغداد الى القاهرة فإنه يمكن بيان هذه الحالة او هذا

ص: 18

الحادث بأبعاد أربعة فإن بيان موضع الطائرة بابعاد خط الطول و العرض و الارتفاع لا تكفي للدلالة على حركة الطائرة و لكن لا بد من البعد الرابع الخاص بالزمن أي لا بد من معرفة تغيرات الموضع بتغير الزمن.

و بعد ان وضح اتصال الزمان مع المكان صحح بعض الاخطاء التي وقع فيها نيوتن فشك في ان التوازن بين الجاذبية و القصور الذاتي كان مجرد صدفة من مصادفات الطبيعة و الكون، و بين تكافؤ القصور الذاتي و الجاذبية الذي ينص على انه لا سبيل الى التمييز بين الحركة الناتجة من القصور الذاتي كالتعجيل و الاصطدام و القوة المركزية الطاردة و الحركة الناتجة من قوة الجاذبية. و رفض الأخذ بالرأي القائل بأن الجاذبية قوة تؤثر على مسافات بعيدة و قال: ان قوة جاذبية الارض للاجسام لا تصل الى ابعد الآفاق في الفضاء.

الفرق بين رأي نيوتن في الجاذبية و رأي انشتاين هو في بيان الفرق بين القصور الذاتي (الاستمرارية) و الجاذبية و نوضح للقارئ هذا الفرق في الاجسام الساقطة فإنه من المعلوم في علم الطبيعة اذا رمينا حجراً من محل مرتفع فإنه تزداد سرعة سقوط الحجر بزيادة الزمن. و يرجع نيوتن زيادة السرعة (التعجيل) الى استمرار تأثير قوة الجاذبية من جهة و إلى الاستمرارية من جهة اخرى فلو كانت قوة الجاذبية موجودة وحدها لاستمر الحجر في السقوط بسرعة منتظمة فقط و لكن القصور الذاتي او الاستمرارية (1) تجعل الجسم يستمر على سرعته المكتسبة. و بقاء تأثير القوة لا بد ان يزيد في سرعة حركة الجسم اذا كان يسير على خط مستقيم (2).

و تعرف القوة في علم الطبيعة بأنها ما يحرك جسماً ساكناً او يوقف جسماً متحركاً او يزيد في سرعة الجسم او يغير اتجاه حركة الجسم او يغير شكل الجسم و تساوي في المعادلة الكتلة في التعجيل.

ق ك ع

لما انشتاين فلا يفرض هذا الفرق بين الجاذبية و القصور الذاتي و يعتبر الجاذبية جزء من القصور الذاتي و هما شي ء واحد. و ظهر في علم الفلك عدة ادلة ايدت آراء انشتاين عن الجاذبية لا مجال لشرحها. و بما ان الحركة نسبية فقد أزال الفرق بين الحركة المنتظمة و الحركة غير المنتظمة و قال في نظرية النسبية العامة (ان قوانين الحياة تنطبق على جميع الاجسام دون اعتبار لحالات حركتها).

في النسبية العامة لا يعتبر الجاذبية قوة بل هي مجال كالمجال المغناطيسي الكهربائي و له صفات مشابهة لذلك المجال، و يرى ان قوة الجاذبية ما هي الا جزء من القصور الذاتي (3) و حركة النجوم و الكواكب لا تعتمد على قوة الجاذبية، و سرعتها المنتظمة لم تنشأ عن التوازن بين قوة الجاذبية (القوة المركزية) و الاستمرارية (القوة المركزية


1- يعرفها علماء الطبيعة بأنها محاولة الجسم للمحافظة على حالته في السكون و الحركة ما لم يؤثر فيه مؤثر.
2- تغيير اتجاه حركة الجسم يحتاج الى قوة.
3- وضّح انشتاين تكافؤ الجاذبية و القصور الذاتي بعدة امثلة لطيفة يستطيع ان يفهمها الشخص المثقف فراجعها في كتاب (العالم و انشتاين) تعريب محمد عاطف البرقوقي ص 82.

ص: 19

الطاردة)، بل تعتمد على قصورها الكامن و المسالك التي تسلكها تحددها الخواص القياسية للفضاء و بعبارة ادق تحددها خواص متصل الفضاء و الزمن.

و نظرية انشتاين في الجاذبية لها دلالات كونية عميقة، فهي تبين أن الكون ليس بناء جامداً او غير قابل للتبدل نثرت فيه اجرام مستقلة في فضاء و زمان مستقلين بل بالعكس فانه متصل متجانس و ليس بناء ثابتاً بل هو مرن و متغير و معرض دائماً للتغير و التبدل فأينما وجدت مادة و حركة فإن المتصل يضطرب و يتشوش مثله في ذلك مثل سمكة عند ما تعوم في البحر تجعل الماء حولها يضطرب، و كذلك فإن النجوم او الشهب او المجرات تحور هندسة الفضاء و الزمن عند ما تتحرك خلالهما. و لذلك يمكن تشبيه الكون بفقاعة الصابون المتمددة او (نفاخة الاطفال) فهو محدود و لكنه غير متناه.

(3) نظرية المجال الموحد:

و بيّن في نظريته عن المجال الموحد ان المادة تكافئ الطاقة، و ان المجال الكهربائي المغناطيسي و مجال الجاذبية شي ء واحد. فالمادة و الطاقة و الجاذبية حقيقة واحدة لا يختلف بعضها عن بعض الا كما يختلف الماء السائل عن بخار الماء او الثلج فالمادة طاقة مركزة، و الطاقة مادة متحررة و المادة عند ما تسير بسرعة النور تصبح طاقة و حقيقة الوجود واحدة هي تموج في متصل الفضاء و الزمن.

و يظهر للقارئ من ذلك التقارب الشديد بين آرائه و آراء فلاسفة التصوف الاسلامي. فآراؤه في النسبية الخاصة عن الحركة و الزمن و المكان و الكتلة متشابهة لنظرية واجب الوجود التي تبين ان كل شي ء في الوجود مرتبط بغيره و متوقف على غيره و الوجود القائم بالذات الحي الدائم هو اللّه و النظرية الثانية بالطبع اوسع و اعم من النسبية الخاصة.

و آراؤه في النسبية العامة و الجاذبية العامة تؤيد وجود منظم لهذا الكون و تفند مفهوم الجاذبية المؤدي الى اعتبار الكون جامداً و مسخراً لقوة ذاتية آلية جامدة بل يظهر كأنه يخضع لمحرك خارج عنه و يظهر ذلك في الامثلة التي يشرحها لتوضيح حقيقة الجاذبية.

و آراؤه في المجال الموحد مطابقة تماماً لنظرية وحدة الوجود و نظرية وحدة الوجود مؤيدة لوجود اللّه الواحد الأحد الفرد الصمد. فإن اتفاق الأشياء في حقيقتها ناجم عن علة واحدة و سبب واحد هو اللّه تعالى، و لو كانت الأشياء حقائق مطلقة ثابتة لكانت خالدة غير قابلة للتغير. فالكثرة ترجع الى الواحد، و لو لا الكثرة الظاهرة ما عرف اللّه الواحد فهي دلائل لوجوده و آيات بينات ساطعات لنوره الفيّاض. فالله نور السماوات و الأرضين.

الأخلاق و التصوف

يطعن بعض الكتاب في آراء الصوفية بأنها آراء تنطوي على التشاؤم و لا تنظر الى الوجود نظرة تفاؤل حيث تجعل الزوال و الفناء من صفات الوجود الاساسية. و هذا سوء فهم من الناس، او سوء تطبيق من بعض الاتباع فإن النظرية تمتاز بالشمول و الانطلاق و الحرية و التفاؤل. فإن النظرية و ان قالت بزوال الموجودات و لكن ما قالت بعدم التجدد و حدوث موجودات جديدة أي انها لم تقل بالفناء المطلق بل قالت بالتغير و التجدد اشياء تزول و اشياء تظهر و تحدث. و ربما كانت الحوادث الناشئة افضل من سابقتها. فهي آراء تدعو الى التقدم و التغير الى الأفضل لا التغير الى العدم و الفناء او انقراض الحياة و الانسان. كما انها حين ترجع الموجودات الى حقيقة واحدة تفسح امام الانسان مجالًا واسعاً من الامكانيات التي تنفعه و تحقق له الحرية و السعادة فيتحرر من قيود الطبيعة و يسيطر عليها و يسخرها لنفعه. و عند ما

ص: 20

يسيطر على الطبيعة سيطرة واسعة يتحرر من القيود الاجتماعية و ينصرف الى تهذيب عقله و روحه و اخلاقه فتصفو نفسه و تنطلق مواهبه الفطرية و خوارق عقله و يقترب من خالقه الذي يكمن في داخله.

و يشرح كتاب (غيتا) للسيد كرشنا اخلاق المتصوف فيقول:

ان نشاط العالم يجب ان يستمر في طريقه و ان علينا ان نتخلّق بالسيرة التي من شأنها ان تساهم في تحسين العالم فنتركه خيراً لأبنائنا مما ورثناه عن آبائنا. لنكن مثل اولئك الطيبين الذين يغرسون الاشجار ليأكل ثمارها ابناؤهم و احفادهم. علينا بالسعي لإصلاح الانسانية باصلاح انفسنا لنكون احسن في المواليد القادمة مما كنا في الحياة السالفة، على رغم اننا ننسى حياتنا الماضية و لا نعرف شخصياتنا الفائتة. و على كل انسان ان يقوم بواجبه الذي يفرضه عليه مقامه في الهيئة الاجتماعية. فليفعل في ظاهره ما يفعله سائر الناس من امور الدنيا. و لكنه يبقى في داخله غير متشبث بها، ليعمل ما يعمل من دون الاثرة و حب الذات. و ليحافظ على توازنه العقلي في النجاح و الخيبة في المنشط و المكره في السراء و الضراء. فالذي تطهر نفسه بهذه الطريقة يسهل عليه التقدم في السيرة الحسنة بالمراقبة و العبادة يجب القيام بالواجبات من دون ان يسمح لعواقبها ان تقلق سكون البال و طمأنينة القلب. و المواظبة على هذا السلوك هو جوهر فلسفة (ويدانت) (1) و هذا المعنى موجود في القرآن و السنة و نهج البلاغة. يعتبرها متصوفة المسلمين من اصول التصوف. و لكن نقلت هذه الفقرة من الفلسفة الهندية لأنها تعتبر من اصول التصوف القديمة.

و الخلاصة انه يتفق اكثر الفلاسفة القدماء و الحديثين في الوقت الحاضر على النقاط التالية:

(1) ان للوجود سراً عميقاً لم يتوصل اليه الانسان بالتأكيد عن طريق العلم و التجربة. و ان توصل اليه على الاجمال عن طريق البداهة و الدين و يأمل الفلاسفة و العلماء و الباحثون ان يقتربوا من هذا السر في المستقبل عن طريق تقدم علم الطبيعة و علم الفلك و الرياضيات و علوم الحياة و علم النفس، و للفقيد الوالد طاب ثراه ابيات جميلة في هذا المعنى:

ان هذا الوجود بحر و لكن اين من في الوجود يسبر قعره

و لهذي الاكوان لبّ و لكن ما عرفنا حتى لحاه و قشره

و لهذي الحياة معنى و لكن علنا بالممات نعرف سره

فهو متيقن من وجود هذا السر و لكن لا يعرف كنهه.

(2) ان للوجود حقيقة واحدة. فهو بسيط الذات معقد في ظواهره و صفاته.

(3) ان الموجودات مركبة و معقدة و مترابطة مع بعضها.

(4) ان الموجودات متغيرة دائماً. كل شي ء يتغير من حال الى حال. واهم حقائق العلوم و الحياة هي الوقائع و الاحداث. و العلم يبحث كيف تحدث الأشياء أي يبحث عن تغير الأشياء. و التغير الذي يسود العالم يشمل التركيب و التحليل، تركيب يعقبه تحليل و تحليل يعقبه تركيب و اللّه للحكمة جعل التغير ضعيفاً بطيئاً في الغالب، و شديداً سريعاً تارة اخرى.

فالأصالة و الثبوت ليست للاشياء و الموجودات لأنها متغيرة و فانية. و ليست الأصالة للمثل او الماهية كما رأى افلاطون بل الأصالة للوجود و حقيقة الوجود التغير و الحوادث و الحركة و التموج. و لكن ما سبب هذه الحوادث في الوجود، انه اللّه. فهو خالق الموجودات و المحافظ


1- مجلة ثقافة الهند عدد يونيو 1951.

ص: 21

عليها و مغيرها. و التطور الذي يسود عالم الجماد و عالم الأحياء لا يناقض الدين بل يؤيده لأن الثبوت و الخلود لله وحده و الأشياء كلها متغيرة.

(5) يجب على الفرد الانساني في سعيه للقيم الرفيعة الحق و الخير و الجمال و المحبة و غيرها اولًا ان لا يفصل الفرد نفسه عن الوجود (و يدخل ضمنه الطبيعية) و لا يفصل نفسه عن المجتمع الانساني فلا بد من التعاون بين الفرد و المجتمع للوصول الى الحقيقة. فهنالك تعامل بين الفرد و المحيط (طبيعياً كان أو اجتماعياً) المحيط يؤثر في الفرد و الفرد يؤثر في المحيط و العقل وسط بينهما يستقبل الحوافز و يصدر الأوامر للاعضاء المختلفة. ثانياً يجب عليه ان لا يفصل العلم عن العمل فلا يفصل معرفته عن سلوكه الشخصي و نشاطه. و لا يفصل العلم النظري عن العلم التطبيقي، أي لا يفصل العلم كغاية عن العلم كوسيلة لخدمة الفرد و المجتمع. النجف الأشرف

عبد الحليم آل كاشف الغطاء

ص: 22

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ*

احمد اللّه على جسيم نعمائه و عظيم آلائه مصلياً على انبيائه و اصفيائه

و بعد

فهذه دروس دينية امليتها لتدرسها الناشئة العربية التي لا تجد بداً من الدخول في هذه المدارس الجديدة الموضوعة على الطرز الحديث.

و معلوم ان الامة أي امة كانت لا تبقى حية في معترك هذه الاكوان و لا تقف في صف الامم و الشعوب النابهة الذكر الا بالاحتفاظ على جنسيتها و قوميتها. و لا تحفظ ذلك الا بالتمسك الشديد و العناية بلسانها و حفظ المستحسن من عاداتها و اخلاقها و دينها. و الا فلو ان العرب مثلًا تخلّقوا بأخلاق الصين و تزيوا بأزياء الاوربيين، او تدينوا بدين البراهمة و البوذيين، لم يكونوا عربا و لماتت الامة العربية و ذهبت ذهاب امس الدابر، و لانمحت من صفحة هذا الوجود كما انمحى غيرها من الأمم ذات الحول و الطول كالآشورية و غيرها، واهم ما يلزم على الأمة للمحافظة على بقاء جنسيتها و استبقاء حياتها المحافظة على لغتها و دينها فهما للامة بمنزلة الروح و الحياة السارية في العروق، فالدين روحها و اللغة حياتها. و قد القيت هذه الدروس قياماً بذلك الواجب عسى ان يحس ولدان اليوم و هم رجال الغد بالضرورة الكاضة الى التمسك بدينهم. و الالتزام بالمهم من احكام شريعتهم. اذ يصح ان يقال انهم هم السبب الوحيد في استبقاء حياة الأمة العربية الى الغد و ما بعده. و اذا انسلخوا من دينهم و لغتهم (لا قدّر اللّه) فعلى العرب و العربية السلام ناهيك بما للدين من الفضائل و جمعه لأسباب سعادة الدارين و فوز النشأتين، و حفظ نظام الهيئة الاجتماعية و كل ما فيه صلاح النوع و الافراد الى ما لا يسعه المقام من سرد فوائده و مزاياه اخص بذلك دين الاسلام الذي هو خاتمة الشرائع و الاديان الذي جمع فاوعى، واخذ ما ابقى، و ارجو ان يكون في القدر المودع في هذه الاوراق من مهمات الدين، كفاية للمبتدئين، و ان كان بعض العبارات اغلاق او ابهام، فالمعول على كفاية المدرسين من اهل الفضل في توضيح المرام و تلقيح الافهام، و ابلاغ الغرض بحسن البيان للتلاميذ احسن اللّه لهم التوفيق جميعاً.

و لما كان الدين مجموع اعتقادات، و اعمال، و اخلاق، وضعنا هذا المؤلف على ثلاثة ابواب.

الباب الأول: في العقائد

اشارة

آمَنَ الرَّسُولُ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ مَلٰائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لٰا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا غُفْرٰانَكَ رَبَّنٰا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (سورة البقرة).

الدين و الشريعة و الملة و المذهب الفاظ مختلفة و معانيها متقاربة، و يستعمل كل واحد منها موضع الآخر فتكون جميعاً بمعنى واحد كما تقول دين الاسلام، و شريعة الاسلام، و ملة الاسلام، و مذهب الاسلام، و الاضافة في الجميع لفظية، و المعنى دين هو الاسلام قال

ص: 23

تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ و من يعرف اتحاد الدين مع الاسلام كاتحاده مع مرادفاته المتقدمة و يستعمل الشريعة و الملة و المذهب استعمالًا اخص من الدين حيث يراد بها احكام العبادات و المعاملات فقط دون العقائد، اما الايمان فهو اخص من الدين كما هو اخص من الاسلام فكل مؤمن مسلم و لا عكس. فالمسلم من اظهر الاعتقاد بأن لا اله الا اللّه و ان محمداً رسول اللّه و شهد بهما و المؤمن من اعتقد بهما قلباً و جري على مقتضاهما قولًا و عملًا. و يقابل المسلم الكافر و هو من لا يشهد الشهادتين، و يقابل المؤمن المنافق و هو من يشهد الشهادتين و يعلم من حاله عدم الاعتقاد بهما قلباً. فظهر ان وراء الدين امور اربعة: الاسلام. و الايمان. و الكفر. و النفاق. و بذا يستطيع التلميذ ان يجيب عن الاسئلة الآتية ما الدين؟ ما الايمان؟ ما الكفر؟ ما النفاق؟.

ص: 24

(درس 1) تعريف الايمان

الشائع في كلمات العلماء و كتبهم ان الايمان هو اعتقاد بالجنان و اقرار باللسان. و عمل بالاركان. فالاعتقاد بالجنان معرفة ان اللّه جل شأنه هو الاله المعبود بالحق، الخالق لكل ما عداه من الخلق. واحد لا شريك له في الربوبية، و لا مثيل له في الوحدانية، و ان محمداً عبده و رسوله ارسله بما فيه سعادة البشر في الدارين و يتم هذا باعتقاد الولاية لأهل بيته و البراءة من عدوهم. اما الاقرار باللسان فهو ان يعترف بتلك الامور و يتخذها ديناً له و نحلة.

و أما العمل بالاركان فالمراد بها الدعائم التي بني عليها الاسلام و بها يكمل الايمان ففي اخبارهم (ع): (بني الاسلام على خمسة اشياء: الصلاة، و الزكاة، و الصيام، و الحج، و الولاية). و سئل صادق اهل البيت (ع) عن الايمان الذي لا يسع احداً جهله فقال" ع": (شهادة ان لا اله الا اللّه و ان محمداً رسول اللّه و الاقرار بما جاء به من عند اللّه و اقام الصلاة و ايتاء الزكاة وصوم رمضان و الولاية لنا و البراءة من عدونا و تكون مع الصديقين).

(درس 2): حقيقة الايمان

تلك هي الكلمات الدارجة في تعريف الايمان. و لكنها تعريفات رسمية تشير الى الحقيقة من بعض وجوهها لا الى ذاتها. و حقيقة الايمان، من حيث الشهود و الوجدان ان تتكيف (1) النفس بصفة اليقين بوجود ذات مقدّسة عن كل صفة نقص من صفات المخلوقين متصفة بكل صفات الكمال و الغنى و ان ذلك الوجود بما ان كل انسان محتاج اليه في آناء حياته و وجوده لأنه العلة فيه فهو الشاهد و الرقيب عليه و هو القائم على كل نفس بما كسبت، و يكون تكيف نفسه بهذه الصفة على نحو تكيفها باليقين بأن النار محرقة و الشمس مشرقة. يستحيل ان يتطرق الشك اليه فضلًا عن التحول و التبدل كما يستحيل ان يجري على خلاف مقتضاه فيمد يده الى النار او يوقد مصباحاً مع ضوء الشمس و كذلك مع الايمان الكامل بالله يمتنع ان يرتكب ما يغضبه، او يترك ما يوجبه.

و تلك الصفة هي التي يعبر عنها باليقين تارة، و بالايمان تارة اخرى، و بالتقوى ثالثة و قد جمع كل ذلك بعض ائمة الهدى (ع) في كلمتين حيث قال: (التقوى ان لا يراك اللّه حيث نهاك، و لا يفقدك حيث امرك).

(درس 3): الايمان الصحيح

الايمان مراتب و درجات لا حد لها في النهاية، و اول درجاته في البداية، السكينة و الطمأنينة التي تهبط على القلب بأن الانسان رهين بأعماله مسئول عنها في محكمة الجزاء بين يدي ربه تلك السكينة التي تبعث روح النشاط الى العمل. و تنفض غبار الخمول


1- تكييف النفس باليقين تصيير اليقين كيفية من كيفياتها و ملكة من ملكاتها بحيث لا تفارقها و لا تنفك عنها مثل ملكة الجود و الشجاعة و امثالها.

ص: 25

و الكسل. تلك السكينة الروحية هي الايمان الذي اراده اللّه جلَّ شأنه لعباده و بعث به الانبياء و الرسل حياة للنفوس. و تعزيزاً للشعوب. و توسيعاً في العلوم لا الذي يخنق المشاعر و يقتل النفوس. و يميت العزائم تحت نير الجهل و الذلة (1).

اول درجات الايمان ان تخضع النفس و تذعن للقوة المدبرة التي هي مصدر كل القوى و يعرف انها ربطت المسببات باسبابها و امرت بأن تؤتى البيوت من ابوابها. و انها قدرت لكل عامل جزاء عمله. و ان اجره بمقدار سعيه. وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلّٰا مٰا سَعىٰ. و حينئذ فيجري لطلب الغايات الشريفة من مسالكها المشروعة ثابت الجأش مطمئن القلب غير متكاسل و لا متواني معتمداً على تلك القوى المدبرة و العناية الكبرى التي كان من بعض ألطافها ان ارسلت الى البشر مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ*، يوضحون السبل و يكشفون الحجب، و يدلون على المهالك و المهاوي و عززتهم بالكتب الالهية، و الارواح اللطيفة العلوية الموسومون باسم الملائكة. و الغاية من كل هذه الاهتمام


1- لقد دفع المؤلف بهذا البيان الطعن الذي يقول به الملحدون، بأن الدين يبعث الى الكسل و ترك العمل و تخدير الجماهير و صرفها عن المطالبة بحقوقها، و هي نقطة هامة انتبه اليها المؤلف.

ص: 26

تسهيل طرق البشر للوصول الى سعادة هذه الحياة و ما بعدها من الحياة الابدية و السعادة السرمدية التي هي عبارة عن انتهاء الى علم لا جهل معه و غنى لا فقر فيه و حياة لا موت بعدها. وصفاء عيش لا كدر معه. هذا هو خلاصة معنى الايمان بِاللّٰهِ وَ مَلٰائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ. و بما ذكر يتضح لك ايضاً الصحيح من معنى الايمان بالقدر فتدبره جيداً.

(درس 4): اثبات الصانع

يجب معرفة الصانع، يعني تحصيل العلم بأن للعالم صانعاً و يجب ايضاً معرفة صفاته، كتوحيده و قدرته و علمه و نظائرها حسب الطاقة البشرية. و الدليل على هذا الوجوب، بعد اجماع كافة الملل، عقلي و سمعي. اما العقلي فمن وجهين:

الأول: قاعدة دفع الضرر المحتمل فإن الانسان اذا بلغ سن التمييز، و بلغه ان للناس ادياناً و مذاهب و ان لهم معبودات يعبدونها تضر و تنفع، فلا شك ان يتطرق اليه احتمال الضرر الدنيوي و الأخروي اذا لم يسلك طريق المعرفة و تحصيل العلم بمعبوده، و دفع الضرر المحتمل واجب بحكم العقل، و لذا يذم العقلاء من يسلك في سفره طريقاً غير مأمون السلامة، و محتمل الهلكة، بل الضرر في المقام متيقن لأن الشك يوجب الخوف و الخوف ضرر فعلي لأنه يوجب القلق و سلب الراحة.

الثاني: من طريق شكر المنعم، فإن شكر المنعم واجب و بيانه ان الانسان اذا بلغ سن التمييز عرف انه متمتع بجملة من النعم، اولها و افضلها نعمة الوجود فيلزمه شكر هذه النعمة لأحتمال عدم شكرها موجب لزوالها. و شكر المنعم موقوف على معرفته ليكون شكره مناسب لشأنه و الا لم يكن شكراً. و الباري تعالى هو الصانع، و الموجد منعم فيجب معرفته كي يمكن القيام بشكره على ما يناسب شأنه تعالى شأنه، و من معرفته معرفة انه حكيم و مقتضى حكمته ان يكلف لعباد بما فيه صلاحهم و لا يتركهم سدى كالبهائم فيجب معرفة مبلّغ التكاليف و هو النبي" ص" و حافظ التكاليف و هو الامام، و معرفة الجزاء للطاعة و المعصية و هو المعاد، و انه تعالى لا يظلم عباده و هو العدل. و هذه بعد معرفة الصانع هي العقائد الخمس المعروفة بأصول الدين (التوحيد) و (العدل) و (النبوة) و (الامامة) و (المعاد) فيجب معرفتها.

اما الدليل السمعي فمن وجهين ايضاً:

الأول: قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ و الأمر للوجوب.

الثاني: انه لما نزل قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلٰافِ اللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي الْأَلْبٰابِ قال النبي" ص": (

ويل لمن لاكها بين لحييه و لم يتدبرها

). و وجه الدلالة انه صلوات اللّه عليه ذم من يتلو الآية و لا يتدبرها. و المراد في التدبر في الآية جزماً هو الاستدلال بالاجرام السماوية، و الحركات الفلكية، و ما في السماوات و الأرض من آثار الصنعة، و عظم القدرة الدالة بالضرورة على وجود صانعها، و باهر قدرته، و بديع حكمته، و واسع علمه. فيكون النظر و الاستدلال الموجبين للمعرفة و العلم واجباً و هو المطلوب.

ص: 27

و من هذه الأدلة العقلية و السمعية ظهر لك ان الواجب هو المعرفة عن الدليل و البرهان و لا يكفي صرف الاعتقاد الحاصل غالباً من تقليد من الآباء و الامهات لأن الواجب هو العلم، و التقليد ليس بعلم، كيف و قد ذم اللّه سبحانه و تعالى التقليد في اصول الدين و العقائد حيث قال جلَّ شأنه في ذم الكفار قالوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ. و حث على النظر و الاستدلال بقوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ.

في اثبات الصانع و اثبات توحيده، لا بد من تمهيد مقدمة (اولًا) و هي ان كل معنى يتصور في الذهن اذا نسبناه الى الوجود الخارجي، يعني لو فكّرنا انه هل هو موجود فعلًا او لا؟، و على الثاني يقبل الوجود او لا؟، و هل وجود ما هو موجود من ذاته او من غيره؟، و نرجع فنقول: كل معنى ذهني اذا قسناه الى الوجود فأما ان يكون نفس ذاته يقتضي أن يكون موجوداً، أي لو تصورناه مع قطع النظر من كل شي ء سوى ذاته لكان موجوداً.

و أما ان يكون نفس ذاته يقتضي ان لا يكون موجوداً، و أما ان يكون نفس ذاته لا يقتضي الوجود كما لا يقتضي العدم، بل هي في حلق الوسط بين الطرفين لا يقتضي هذا و لا ذاك. فالأول هو واجب الوجود لذاته، و الثاني هو الممتنع أي المستحيل لذاته، و الثالث هو الممكن الذي لا تقتضي ذاته الوجود و لا العدم، فقد يوجد و قد لا يوجد، فإن اقتضت علته وجوده وجد و صار موجوداً و واجباً بالغير، و ان لم توجد علة وجوده او وجدت علة عدمه كان ممتنعاً بالغير. و من هنا ظهر ان الواجب تارة يكون واجباً بالذات و هو واجب الوجود و تارة واجباً بالغير و هو الممكن الذاتي الذي وجد بوجود علته. و كذلك الممتنع تارة بالذات و هو المستحيل كاجتماع النقيضين و تارة بالغير و هو الممكنات الذاتية التي لم تتحقق علة وجودها، و يمتنع تحقق المعلول بدون العلة، اما الامكان فلا يكون الا ذاتياً و لا معنى للامكان بالغير اصلًا كما يظهر بأدنى تأمل. ثمّ من اخص لوازم الوجود و مزاياه القدم و استحالة ان يتطرق اليه العدم. و من اخص لوازم الامكان الحدوث أي كونه مسبوقاً بالعدم. يظهر من التأمل مما قدمناه من لوازم الواجب الذاتي أي واجب الوجود و استحالة اجتماع وجوبه الذاتي مع وجوبه الغيري لأن الواجب الغيري يمكن ان يرتفع بارتفاع الغيري، و الواجب الذاتي يستحيل ارتفاعه على كل تقدير. و بنحو آخر الواجب الغيري معلول و الواجب الذاتي لا علة له. و كون الشي ء معلولًا و غير معلول تناقض. و وجود الواجب الغيري زائد على ذاته. و الواجب الذاتي وجوده عين ذاته و هو بسيط لا تركيب فيه اصلًا و الا لكان ممكناً لاحتياجه الى الآخر، و الواجب الغيري مركب من الماهية و الوجود. و الماهية يمكن ان تتعدد بتعدد افرادها، و الواجب الذاتي يستحيل تعدده لأنه لا ماهية له و لو كان له ماهية لكان ممكناً و قد فرضناه واجباً بالذات و هذا خلف. و من كل هذا ظهر لك ان الممكن تتساوى نسبة الوجود و العدم اليه و ليس احدهما اولى من الآخر بل هما بالنسبة اليه مثل كفتي ميزان و لو كان احدهما اولى به من الآخر خرج من معنى الإمكان الذاتي و قد فرضناه ممكناً. و من جهة تساوي نسبة الطرفين اليه كان محتاجاً في وجوده الى المؤثر أي العلة و يستحيل الترجيح بلا مرجح فوجوده يستند الى وجود علته و عدمه لعدم علة وجوده. و علة احتياجه الى العلة هو امكانه لا حدوثه (1) و لذا يحتاج الممكن


1- يقصد في هذه العبارة و ما بعدها ان الموجود بعد ان يحدث يبقى ممكناً و لا يكتسب صفة لوجوب بعد حدوثه، و يحتاج الى العلة لبقائه بعد حدوثه كما احتاجها قبل حدوثه، أي انه لا بد ان يتغير او يزول بعد حدوثه طال امد بقائه ام قصر أي يبقى ممكناً.

ص: 28

الموجود في بقائه الى العلة كما يحتاج اليها في حدوثه لأن امكانه لا يزول حتى حين وجوده و بعد حدوثه فتدبر جيداً.

بعد ما عرفت تلك المبادئ المحكمة و المقدمات المبرهنة نقول في الاستدلال على اثبات الصانع و توحيده انه لا شك اننا نرى في الخارج موجودات كثيرة و نراها متغيّرة و لها حالات مختلفة و لا شك ان كل متغير حادث و كل حادث ممكن. اذن فهذه الموجودات ممكنة و كل ممكن يحتاج في وجوده الى علة و يفتقر الى سبب فإن كانت تلك العلة واجبة الوجود بالذات فلا تفتقر الى علة بل هي علة العلل و ينقطع عندها السؤال و قد ثبت المطلوب و الا لزم ان لا يوجد شي ء من الممكنات المحسوسة و هو باطل بالضرورة. و ان شئت قلت ان هذه الوجودات الامكانية معلولة و المعلول يدل على وجود العلة لا محالة. و تلك العلة ان كانت نفس تلك الممكنات او بعضها لزم الدور، و ان كانت غيرها نقلنا الكلام اليها و ان كان واجباً ثبت المطلوب. و الا لزم التسلسل، و الدور و التسلسل باطلان بالضرورة، اذن فلا بد من وجود الصانع الذي هو واجب الوجود و لا مجال لأحتمال تعدده، لما عرفت من ان لازم وجوب الوجود عدم التعدد و الاستحالة الاثنينية فيه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا اله الا هو جلت عظمته. و من هناك يسعك ان تعرف ان الاستدلال من طريقين:

الأول: من النظر الى الموجودات و التوصل الى العلل و الاسباب من المعلومات و المسببات و هو المشار اليه بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي الْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ و هذا نفس ما استدل به الاعرابي من ان البعرة تدل على البعير و اثر الاقدام يدل على المسير فسماء ذات ابراج و ارض ذات فجاج لا يدلان على اللطيف الخبير. الثاني: من النظر في نفس الوجود و تقسيمه الى الواجب و الممكن و التوصل بهذا الى ضرورة تحقق الواجب جلَّ شأنه و هو المشار اليه بقوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ.

و البحث الثاني بعد الفراغ من اثبات ذاته. اثبات صفات الواجب. و صفاته تعالى ثبوتية و هي صفات الكمال، و سلبية و هي صفات النقص، فكل صفة كمال لا تستلزم نقصاً فهي ثابتة لهو كالعلم و الحياة و القدرة، و كل صفة نقص فهي منفية عنه، كالجهل و العجز و الفقر و نحو ذلك و امهات صفات الكمال أي الصفات الثبوتية ثمانية و الا فأوصافه الكمالية من جمالية و جلالية لا تعد و لا تحصى و نبدأ من صفات الكمال بالقدرة و لازمها الاختيار و انما بدءوا بها لأنها اقرب الى الصنع الذي تقدم الكلام فيه من جهة اثبات الصانع. اما اثبات انه قادر فلان القدرة صفة كمال فلو لم تثبت له ثبت ضدها و هو العجز و عدم القدرة و هو باطل لما عرفت من ان الوجوب الذاتي يعني واجب الوجود يستحيل تدخل العدم فيه و لو تدخل العدم فيه كان ممكناً، و قد ثبت انه واجب، فلو لم يكن قادراً لكان واجباً ممكناً و هذا محال، اذن فهو تعالى قادر لا محالة و اذا ثبت كونه قادراً ثبت كونه مختاراً.

اذ الاختيار من لوازم القدرة بل ببعض الاعتبارات هو عين القدرة و توضيح ذلك ان كل اثر يصدر عن مؤثر، فأما ان يصدر عن قصد و شعور و علم و ارادة، و أما ان يترتب عليه و يصدر عنه قهراً من غير ارادة و لا علم كالنار في احراقها، و الشمس في اشراقها. و الأول

ص: 29

هو الفاعل المختار و الثاني هو الفاعل الموجب و بينهما فرق فالأول يمكنه الفعل و الترك معاً لأمر واحد دون الثاني و قد شرحنا صفاته تعالى في الجزء الأول من كتاب الدين و الاسلام.

(درس 5): توحيد الصانع و القول بوحدة الوجود

لا ريب ان كل ذي حس حتى الحيوان فضلًا عن الانسان يفهم للوجود معنى، و يميز بين الموجود و المعدوم.

و الحكماء بعد ان اتفقوا على ان مفهوم الوجود المأخوذ من جميع الموجودات المتعينة واحد و يعبر عنه بطارد العدم تارة، و بما يترتب عليه اثر الشي ء الخاص به اخرى، و ما اشبه ذلك من العبارات التي هي شرح الاسم و المعرف اللفظي لا بيان الكنه و الحقيقة، و لذا قالوا ان الوجود مفهومه من اوضح الأشياء و كنهه في غاية الخفاء. و بعد اتفاقهم على وحدة مفهومه و بداهة تصوره و استحالة معرفته او تعريفه بجنس او فصل (1) اذ هو ليس بجوهر و لا عرض و لا جنس له و لا فصل فانها حدود للماهيات لا للوجود، و اختلفوا في الموجودات الخارجية المتباينة الماهية و الحقيقة كالانسان و الحجر و الشجر و ان وجوداتها الخارجية بقطع النظر عن ماهياتها المتباينة هل هي حقيقة واحدة كمفهوماتها الذهنية او متباينة كماهياتها الواقعية فقال طائفة و هم المشاءون من تلامذة افلاطون انها متباينة كماهياتها (2) و لازم هذا ان يكون الوجود عندهم من المشترك اللفظي (3) و هو موضوع لمعاني لا تتناهى و كل وجود مباين للآخر فضلًا عن تباين الحقيقة. و قالت طائفة اخرى بأنه في الخارج حقيقة واحدة كما هو في الذهن و اطلاق الوجود عليها من المشترك المعنوي لا اللفظي سواء كانت معروضات الوجود افراد حقيقة واحدة كأفراد الانسان او حقائق مختلفة كأفراد الانسان و افراد الحجر فإن الوجود في الجميع واحد بالنظر الى ذاته و حقيقته. نعم حقيقة الوجود تختلف مصاديقها في الشدة و الضعف و الخفاء و الظهور ففيها الواجب القديم الأزلي الذي وجوه بذاته و غناه بنفسه و هو علة العلل و مصدر كل الكائنات، و فيها الوجود الممكن المحتاج في حدوثه و وجوده الى الواجب فهو واجب بالغير و علته واجب بالذات. لكنه مع هذا الاختلاف العظيم و البون الشاسع فنفس طبيعة الوجود فيهما واحدة و هي ما نعبر عنه بالظهور و التحقق و امثال ذلك. و لهم على ذلك عدة براهين رصينة و اوضحها و انقحها ان المفهوم الواحد لا يعقل ان ينتزع من حقائق مختلفة و معاني متباينة ليس بينها قدر جامع و وجه مشترك و الّا لبطلت الحكمة و حالت الحقائق و صح انتزاع كل شي ء من كل شي ء.

و هذا المذهب هو الحق الصراح الذي يقومه البرهان و يدعّمه الوجدان. و وحدة الوجود بهذا المعنى مما لا محيد عنه، و هي الأساس لأكثر القواعد في العلم الإلهي و لا تنافي شيئاً من قواعد الدين و عقائد الإسلام بل لا يتم توحيد الحق و حق التوحيد الا بها. و لذا لما اورد (ابن كمونة) شبهته المشهورة في امكان وجود الشريك لواجب الوجود (تعالى اللّه عن ذلك) ارتبك


1- الجنس و الفصل اصطلاحان في علم المنطق لتعريف النوع مثلًا عند ما نقول (الانسان حيوان ناطق) فالإنسان نوع و الحيوان جنس و الناطق فصل.
2- قال في التعريفات: (الماهية تطلق غالباً على الأمر المتعلق مثل المتعلق من الانسان و هو الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الوجود و الأمر المتعلق من حيث انه معقول في جواب ما هو سمي ماهية و من حيث ثبوته في الخارج سمي حقيقة و من حيث امتيازه عن الاغيار هوية) و الماهية تقارب معنى المثل عند افلاطون.
3- المشترك اللفظي مثل كلمة العين للباصرة و ينبوع الماء و الذهب و كفة الميزان و غير ذلك.

ص: 30

اهل الرأي في دفعها بل عجزوا عن الجواب عنها حتى قال بعضهم لو بعث اللّه نبياً في هذا الزمان لم اسأله من المعجزة الا دفع شبهة ابن كمونة. و في الحق انها على ذلك المبنى لا مجال لدفعها كما انها على المبنى الثاني لا مجال لورودها فضلًا عن الحاجة الى دفعها و شرح ذلك يحتاج الى فضل بيان لا يسعه المجال. انما جلَّ الغرض ان وحدة الوجود بهذا المعنى هي الحق و لا يتم الا بها وحدانية الحق و لا يقدح في هذه الوحدة ان نقول ان واجب الوجود هو الوجود الحقيقي و وجود الموجودات الامكانية وجود مجازي نظراً الى ضعفها و حاجتها الى علتها و عدم بقائها و ان كانت بحسب الحقيقة وجودات ذات آثار جلى و لها حظها من الوجود و هي بالقياس الى وجود الواجب كالعدم.

نعم هناك معنيان آخران لوحدة الوجود:

احدهما: أن الوجود في ظرف الخارج و التحقق ليس الا ذلك الوجود الواجب الأزلي و باقي الوجودات الامكانية كلها افعاله و الفعل اثر الفاعل و لا وجود له سوى وجود فاعله فليس في الدار غيره ديار و شعاع النار لا وجود له سوى وجود النار و لعل هذا المعنى هو الذي يرمز اليه العرفاء و كبراء التصوف في كلماتهم و إليه الإشارة بقولهم:

كل ما في الكون و هم او خيال او عكوس في المرايا او ظلال

و قول آخر:

و ما الوجه الا واحد غير انه اذا انت عددت المرايا تعددا

و عليه يحمل شطحات بعض كبرائهم كقول الحلاج: أنا الحق و ما في جبتي الا الحق و قول الجنيد: لمن روى له حديث كان اللّه و لم يكن معه شي ء الآن كما كان يعني ان الفعل ليس مع الفاعل بل من الفاعل فهو متأخر عنه و قائم به. و لكن لا يصح به امثال قول القائل: انا انت فسبحانك سبحاني الا على نظرية انا من اهوى و من اهوى انا. و على كلٍ فتلك الكلمات من المبهمات التي لا توافق بظاهرها ظواهر الشريعة، و ربما تكون لأربابها مقاصد صحيحة و السرائر لله.

الثاني: ان الموجودات كلها هي الوجود الواجب و لكن ليس هو الا هذه العوالم المحسوسة و المعقولة و هي بأجمعها تطوراته و تشكلاته، و هذا هو الكفر المحض و الضلال المبين و إليه اشار بعض الحكماء الراسخين في اسفاره حيث قال: ان بعض الجهلة من المتصوفين المقلدين الذين لم يحصلوا طريق العلماء العرفاء و لم يبلغوا مقام العرفان توهموا لضعف عقولهم و وهن عقيدتهم و غلبة سلطان الوهم على نفوسهم ان لا تحقق بالفعل الا للذات الأحدية المنعوتة بالسنة العرفاء بمقام الأحدية و غيب الهوية و غيب الغيوب مجردة عن المظاهر و المجالي بل المتحقق هو عالم الصورة و قواها الروحانية و الحسية و اللّه هو الظاهر المجموع لا بدونه (1). الى ان قال: و هذا كفر محض و زندقة صرفة لا يتفوه من له ادنى مرتبة من العلم و نسبة هذا الأمر الى اكابر الصوفية و رؤسائهم افتراء محض و افك عظيم يتحاشى عن اسرارهم و ضمائرهم.

و اقول: ان هذا هو عين قول الماديين و الطبيعيين و الا فإنه أخوه غذته امه بلبانها، و قد تجلى لك ان لوحة الوجود ثلاثة معاني صحيح لا ريب فيه و باطل لا مرية فيه و مجمل امره الى اللّه، فالعرفاء قصروا نظرهم على مقام الوحدة، و جهلة الصوفية قصروه على الكثرة


1- اعتبار أن الموجودات هي واجب الوجود فيه شي ء كثير من التعقيد في المعنى احد المعاني ان الموجودات شريكة لله في الثبوت و عدم التغير و هذا ما ينقضه العلم و الآخر ان اللّه ليس له وجود مستقل عن الموجودات و لا هيمنة له عليها و هذا كفر محض، اذن كيف نشأت الموجودات من العدم؟ و لما ذا تتغير؟.

ص: 31

و الحق هو الجمع بين الوحدة و الكثرة، ورد الكثرة الى الوحدة و لا ريب ان الكثير اصله الواحد عزَّ شأنه وسع برهانه (1).

(درس 6): العدل الاعتقادي

(2) فنقول: و من اللّه المعونة انه قد اتفقت قاطبة المسلمين على اختلاف مذاهبها و اذواقها و مشاربها على اتصاف ذاته تعالى بالعدل في الجملة بل ظني ان ذلك مذهب كل من يقول بثبوت الفاعل المختار في المبدأ حتى الأشاعرة و جعلهم في مقابلة العدلية انما هو باعتبار لازم قولهم و مذهبهم في مسألة اخرى كما سيتضح لك ذلك ان شاء اللّه و الا فهم قائلون بأنه جلَّ شأنه متصف بالعدل منزه عن الظلم كيف و الكتاب العزيز طافح بذلك على وجه الصراحة و النصوصية بحيث لا يصح من مسلم انكاره. نعم لهم مذهب يستلزم ذلك لزوماً بتّيّاً، و يؤدي اليه اداءً بديهياً، و ذلك انهم انكروا الحسن و القبح العقليين بمعنى ان يكون للعقل حكم بأحد الأمرين على الأفعال بذواتها و انفسها مع قطع النظر عن كونها ملائمة للطبع او منافرة له بتحصيل غرض او مصلحة او دفع مضرة و مفسدة او اعتياد عرفي او انقياد ديني يوجبان الالفة او النفرة فالأفعال عندهم بالذات، و مع قطع النظر عن تلك الجهات شرع سواء لا تفاوت فيها حسناً و قبحاً، و فاعلوها لا يختلفون في الاستحقاق مدحاً و لا قدحاً فلو ان رجلًا اسدى عظيم الاحسان الى الانسان ثمّ احتاج اليه بأهون شي ء فقابله بالرد و الهوان، او القتل و الحرمان و لم يكن ذلك الفعل مما يعود الينا ابداً بمنفعة او مضرة، و قطعنا النظر عن حكم الديانة بتقبيحه و تحريمه لم نجد فيه عندهم شناعة، و لا استغراباً و بشاعة، و هذا


1- ان النبذة الأخيرة بقلم الفقيد المؤلف احسن خلاصة و توضيح لنظرية وحدة الوجود.
2- اضيف نقلًا عن كتاب الدين و الاسلام ج 1 ص 129.

ص: 32

ص: 33

ص: 34

ص: 35

ص: 36

ص: 37

ص: 38

ص: 39

الحكم عندهم سار في افعال الخالق و المخلوق جميعاً سوى ان افعال المخلوق قد تصير حسنة او قبيحة بعد تعلق احكام الديانات بها ايجاباً او تحريماً بخلاف افعاله المقدسة فإنه لا مجال للعقل فيها بتحسين او تقبيح ابداً فلو عذّب العبد الذي افنى عمره بالطاعة و العبادة و خلده في جهنم و انعم على الشقي الذي اهلك العباد و افسد البلاد بالقتل و الظلم و ادخله الجنة لم يكن ذلك منه قبيحاً و لا خلافه حسناً بل كل ما يفعله و يأمر به هو الحسن و كل ما يتركه او ينهى عنه فهو القبيح لا انه يفعل ما هو الحسن لحسن ذاتي يدعوه الى فعله او يترك الشي ء لقبح ذاتي يوجب تركه و من هنا لزم مقالتهم هذه انكار كونه تعالى عادلًا بالمعنى الآتي قريباً بل صرحوا بانكاره و جواز ان يدخل النار من اطاعه و الجنة من عصاه قائلين بأن كل ما يفعله هو العدل كيف ما كان و قد خالفهم في ذلك قاطبة العقلاء و ضرورة العقول و تظاهر في خلافهم و الرد عليهم من المسلمين طوائف عرفوا بالعدلية، و هم كافة مشايخ العرفاء وسادة الصوفية و اساطين الحكمة و الفلاسفة الآلهية و قاطبة و جمهور الإمامية و سائر السلفية و الظاهرية و نحن نوضح لك الحقيقة بأجلى بيان و ذلك ان لكل واحدة من الحواس الظاهرة بالضرورة ملائمات و منافرات من الأفعال الخارجية بل سائر الموجودات مما تقع عليه تلك الحواس فكما ان السمع تلذه أصوات القماري و البلابل بسجعها، و تؤنسه نغمات الأوتار في تناسب وقعها، و تزعجه اصوات الحمير و قعاقع الرعد المهول و عواصف الريح و زجل الطبول، و اللمس تلائمه النعومة و تؤلمه الخشونة، و الشم تنعشه روائح المسك و تكمده العفونة و هكذا الذوق و البصر، في مدركاتهما من الطعوم و الصور، فكما ان لكل واحدة من هذه الحواس منافراً و ملائماً، و مصالحاً و مصادماً، فكذا لرئيسها و حاكمها و مسيسها، الذي به صار الانسان انساناً، و الا فهو بتلك الأمور وحدها لم يكن الا حيواناً.

لو لا العقول لكان ادنى ضيغم ادنى الى شرف من الانسان

فلا محالة له منافرات و ملائمات، بضرورة ان له مدركات و معقولات و الا فهو معدوم باطل الذات، و ما القول بوجوده حينئذ الا كالقول بالغول و العنقاء و سائر الخرافات، ضرورة ان لا سبيل لنا للايمان بوجود شي ء من القوى الحساسة الا بظهور

ص: 40

آثارها إذ كم من واجد لجارحة العين و الاذن و هو اعمى او اصم، و فاقد لحاسة الشم و هو ذو انف اشم، هذا حال النفس و قواها مع ان لها جوارح و ادوات، و اعوان و آلات، و لهذا كانت مجردة في ذاتها، مادية في فعلها (و النفس في وحدتها كل القوى) فكيف بالعقل و هو المجرد في ذاته و في فعله (1).

(درس 7): المعاد الجسماني

(2) المهم و الاعضال في هذا الموضوع هو تصور كيف يعود هذا الجسم العنصري الذي تعتور عليه الأطوار و الأدوار المختلفة المتنوعة التي ينتقل فيها من دور الى دور لا يدخل في واحد الا بعد مفارقة ما قبله و لا يتشكّل الا بشكل يباينه ما بعده ينشأ جنيناً ثمّ طفلًا رضيعاً ثمّ صبياً و غلاماً ثمّ شباباً و كهلًا ثمّ شيخاً و هرماً فبأي صورة من هذه الصور يبعث و اي جسم من هذه الأجسام يعود ثمّ كيف يعود و قد تفرق و رجع كل شي ء الى اصله غازاً و تراباً و كل ما فيه من عناصر و لو جمعت كلها و اعيدت فهو خلق جديد و جسد حادث غايته انه مثل الاول لا عين الأول مضافاً الى الشبهات الكثيرة كاستحالة اعادة المعدوم و شبهة الآكل و المأكول و غير ذلك، و حيث ان الاعتقاد بالمعاد روحاً و جسماً يعد من اصول الدين الخمسة او من دعائم الاسلام الثلاثة التوحيد و النبوة و المعاد و مهما كان فلا مجال للشك بأن المعاد الجسماني على الاجمال من ضروريات دين الاسلام، و هل الضروري من الدين الا ما يكون التدين بذلك الدين مستلزماً للاعتقاد و التدين به مثلًا وجوب الصلاة من ضروريات دين الاسلام فهل يعقل الالتزام بدين الاسلام مع عدم الالتزام بوجوب الصلاة، و التصديق بنبوة النبي عبارة عن التصديق بأن كل ما جاء به حق و هو من اللّه جلَّ شأنه و هذا القدر يكفي في الاعتقاد بالمعاد و لا حاجة الى اكثر من هذا للخروج من عهدة التكليف الشرعي او العقل، و لا يلزم معرفة كيف يعود و متى يعود و اين يعود فان التكليف بمعرفتها تكليف شاق على الخواص فكيف بغيرهم فإنه يكاد يكون تكليفاً بما لا يطاق و العلم اللازم في اصول الدين لا يقدح فيه الاجمال و لا يلزم فيه ان يكون قادراً على البرهنة و الاستدلال بل يكفي فيه حصوله من أي سبب كان و عدمه جواز التقليد في اصول الدين يراد منه عدم كفاية الظن و لزوم القطع و اليقين لا لزوم اقامة الحجج و البراهين، و الغاية من هذا البيان و الغرض الأقصى به انه لا يجب على المكلفين و لا سيما العوام البحث عن كيفية المعاد الجسماني بل قد لا يجوز لهم ذلك كسائر قضايا القواعد النظرية و المباحث الحكمية مثل قضية القضاء و القدر و الخير و الشر و الاختيار و الجبر و ما الى ذلك من المعضلات العويصة اذ قد تعلق الشبهة بذهن احدهم و لا يقدر على التخلص منها فيكون من الهالكين كما هلك ابليس اللعين بشبهة خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* فالأولى بل الأسلم هو الالتجاء الى العلم الحاصل من النقل من كتاب و سنة و اعتبارات يستفاد من مجموعها اليقين بأن المعاد الجسماني مثلًا من اصول الدين و يلتزم به و يقف عند هذا الحد


1- يستدل الفقيد على صحة مذهب العدلية بميول الحواس فالسمع يميل الى الأصوات الحسنة مثلًا بغض النظر عن فائدتها بل لذاتها، و العقل الذي هو سيد الحواس و ارقى منها لا بد ان يميز الحسن من القبيح على وجه العموم و هذا الرأي مع صوابه لا ينقض رأي الاشاعرة تماماً لأن رأيهم لا يخلو من صحة، و الحقيقة دائماً ذات وجهين (السلب و الايجاب) و قد تكون ذات وجوه احياناً.
2- اضيف نقلًا عن الفردوس الأعلى ص 164.

ص: 41

و على هذه الجملة و الاجمال لا يتجاوزه الى تفاصيل الاحوال اما الاستدلال عليه كما قد يقال بأنه ممكن عقلًا و قد اخبر به الصادق الأمين فيجب تصديقه فهو دليل لا مناعة فيه لدفع الاشكال فإن المانع يمنع الصغرى و يدعي انه ممتنع عقلًا ام لاستحالة اعادة المعدوم او لغير ذلك من المحاذير المعروفة و حينئذ فاذا ورد ما يدل عليه بظاهر الشرع فاللازم تأويله كي لا يعارض النقل دليل العقل كما في سائر الظواهر القرآنية مثل يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ و الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ الى كثير من امثالها مما هو ظاهر في التجسيم المستحيل عقلًا اذاً أ ليس الأسد و الأسعد للانسان القناعة بالسنة و القرآن و ترك البحث و التعمق و طلب التفصيل في كل ما هو من هذا القبيل و لعل هذا المراد من الكلمة المأثورة (1) ( (عليكم بدين العجائز)) أي اعتقاد الطاعنين او الطاعنات في السن فإن من نشأ على عقيدة و شبَّ و شاب عليها تكون في اقصى مراتب الرسوخ و القوة و لا تزيله كل الشبهات و التشكيكات عنها و ان كانت العقيدة عنده مجردة عن كل دليل بل تلقاها من الآباء و الامهات إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ و لعل في كلمة (العجائز) تلميحاً ايضاً الى العجز عن اقامة الدليل فإن اهل الاستدلال و الصناعات العلمية غالباً اقرب الى التشكيك من اولئك البسطاء المتصلبين في عقائدهم غلطاً كانت في الواقع او صواباً و لذلك كانت الانبياء" عليه السلام" يقاسون انواع البلاء و اشد العناء في اقناع امتهم بفساد عقائدهم و اقلاعهم عنها من عبادة الاصنام او غيرها. و البساطة في كل شي ء اقرب الى البقاء و الدوام من التركيب و الانضمام و البسائط اثبت من المركبات لقبول الأجزاء الانحلال و التفكك و لعل هذا هو السبب في جعل الاعتماد في الاعتقاد بالمعاد و الجسماني منه خاصة على ظواهر الشرع و الادلة النقلية دون العقلية من بعض اكابر الحكماء كالشيخ الرئيس ابن سينا حيث قال في المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء (فصل في المعاد) و بالحري ان نحقق هاهنا احوال النفس الانسانية اذا فارقت ابدانها و انها الى أي حالة تعود فنقول: يجب ان يعلم ان المعاد منه ما هو مقبول من الشرع و لا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوة و هو الذي للبدن عند البعث و خيرات البدن و شروره معلومة و قد بسطت الشريعة الحقة التي اتانا بها سيدنا و نبينا و مولانا محمد بن عبد اللّه" ص" حال السعادة و الشقاوة التي بحسب البدن، و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهاني و قد صدقته النبوة و هما السعادة و الشقاوة التي للانفس انتهى محل الحاجة منه. و عليه فمن حصل له الاعتقاد بالمعاد من الادلة السمعية و لم تعرض له فيه شبهة توجب تشكيكه لرسوخ عقيدته و قوتها فقد وفق و اصاب، و بلغ النصاب، و لا ينبغي بل لا يجوز له الخوض في الأدلة العقلية و الأصول النظرية و لكن من عرضته الشبهة او اعتقد بالاستحالة و الامتناع عقلًا و انه لا بد من تأويل الظواهر الشرعية كي لا يتنافى الشرع مع العقل و يسقط عنده قول المستدل انه ممكن و اخبر به الصادق الأمين لاندفاعه عنده بما اشرنا اليه قريباً فلا بد حينئذ من رفع هذه الدعوى اعني


1- مراد شيخنا الامام دام ظله من كون تلك الكلمة مأثورة هو كونها مأثورة من بعض السلف لا انها مأثورة بهذه العبارة عن احد المعصومين" عليهم السلام" لأنها ليست من المأثورات عن النبي" ص" او اهل بيته" عليهم السلام" و لم يروها احد من المحدثين بطرق اصحابنا الامامية او بطرق اهل السنة في الجوامع الحديثية عنهم صلوات اللّه عليهم كما حققنا ذلك تفصيلًا في بعض مجاميعنا، و قال الحافظ ابو الفضل محمد بن طاهر بن احمد المقدسي في كتابه (تذكرة الموضوعات) من ص 40 الطبعة الثانية سنة 1354 بمصر (عليكم بدين العجائز ليس له اصل من رواية صحيحة و لا سقيمة الا لمحمد بن عبد الرحمن البيلماني بغير هذه العبارة له نسخة كان يتهم).

ص: 42

دعوى الاستحالة و الامتناع و اثبات انه ممكن عقلًا بل واقع فاللازم اثبات امكانه الذاتي و امكانه الوقوعي ابقاء للادلة الشرعية على ظواهرها، و قطع ايدي التأويل عن منيع مقامها.

و حيث ان الحاجة الى النظر في هذه القضية لا بد ان يكون من غير الظواهر النقلية بل من المبادئ العقلية، فاعلم اولًا ان الأقوال في المعاد اربعة:

احدهما: انكاره مطلقاً لا جسماً و لا روحاً، و هو قول جميع الملاحدة و الطبيعيين الذين ينكرون المبدأ، فكيف المعاد و هما متلازمان في المفاد و بينهما اقوى مراتب الاتحاد و اثبات المبدأ يكفي في ابطال هذا القول راجع الجزء الأول من (الدين و الاسلام) تجد فيه لإثبات الصانع ما يغنيك عن غيره بأجلى بيان، و اقوى برهان.

ثانيهما: اثبات المعاد الروحاني فقط نظراً الى ان الأرواح مجردة و المجرد باق، و الجسم مركب من عناصر شتى، و اذا فارقته الروح، و دخلت في عالم المفارقات انحل هذا المركب و لحق كل عنصر باصله. و انعدم و تلاشى ذلك المركب، و انعدمت تلك الصورة، و المعدوم يستحيل عوده، و الروح باقية، و هي التي تعاد للحساب و انجاز عملية الثواب و العقاب، و لعل الى هذا الرأي المثالي او الخيالي يشير المعلم الثاني ابو نصر الفارابي في ارجوزته التي يقول فيها:

اصبح في بلابلي و امسي امسي كيومي و كيومي امسي

يا حبذا يوم حلول رمسي مطلع سعدي و مغيب نحسي

من عرضي يبقي بدار الحس و جوهر يرقى لدار القدس

و كل جنس لاحق لجنس

و يعني بالعرض الجسم التعليمي، ذا الابعاد الثلاثة، و الكيفيات الخاصة و هو الذي تتفرق بالموت اجزاؤه، و يلحق كل جزء باصله من العناصر و لم يعلم رأيه انها تعود او لا تعود و كيف تعود، و على كل فبطلان هذا القول يبتني على منع صيرورة البدن معدوماً بالموت او بعد الموت كما سيأتي قريباً ان شاء اللّه.

ثالثها: القول بالمعاد الجسماني فقط، و هو مذهب جميع اهل الظاهر من المسلمين و بعض المتكلمين، و هو لازم كل من انكر وجود النفس و الروح المجردة، بل انكر وجود كل مجرد سوى اللّه (فلا مجرد الا اللّه) اما الملائكة، و العقول، و النفوس و الارواح، فكلها اجسام، غايته انها تختلف من حيث اللطافة و الكثافة و العنصرية و المثالية يظهر هذا من كلمات عدة من العلماء و لكني اجلهم عن ذلك، و كلماتهم محمولة على غير ما يتراءى منها، و مغزاها معاني اخرى جليلة.

رابعها: و هو احقها و اصدقها اثبات المعادين الجسماني و الروحاني، أي معاد هذا الجسد الذي كان في الدنيا بروحه و جسمه، فيعود للنشر يوم الحشر كما كان، و يقف للدينونة بين يدي الملك الديان. كما هو ظاهر جميع ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الدالة على رجوع الخلائق الى اللّه عز شأنه و الرد على منكري البعث و المعاد لمحض العناد او الاستبعاد او اخذاً بقضية استحالة اعادة المعدوم المرتكزة في الاذهان و قد رد عليهم الفرقان المحمدي بأنحاء من الاساليب البليغة البالغة الى اقصى مراتب البلاغة و القوة يعرفها من يتلو القرآن بتدبر و امعان و حيث ان غرضنا المهم من تحرير هذه الكلمات هو اثبات الامكان و دفع الاستحالة كي تبقى ظواهر الادلة على حالها لذلك لم نتعرض لسرد تلك الآيات النيرات و اتجهنا الى تلك الوجهة و دحض تلك الشبهة بأوضح بيان و اصح برهان و منه تعالى نستمد

ص: 43

و على فضل فيضه نعتمد و نقول حيث ان من الواضح المعلوم بل المحسوس لكل ذي حسن ان كل شخص من البشر مركب من جزءين الجزء المحسوس و هو البدن العنصري الذي يشاهد بعين الباصرة و يشغل حيزاً من الفضاء و جزء آخر يحس بعين البصيرة و لا تراه عين الباصرة و لكن يقطع كل احد بوجود شي ء في الانسان بل و الحيوان غير هذا البدن بل هو المصرف و المتصرف في البدن و لولاه لكان هذا البدن جماداً لا حس فيه و لا حركة و لا شعور و لا ارادة، اذاً فيلزمنا للوصول الى الحقيقة و الغاية المتوخاة البحث عن هذين الجزءين فإذا عرفناهما حق المعرفة فقد عرفنا كل شي ء و اندفع كل اشكال ان شاء اللّه. (و إليك البيان) يشهد العيان و الوجدان و هما فوق كل دليل و برهان و إليهما منتهى اكثر الأدلة ان هذا البدن المحسوس الحي المتحرّك بالإرادة لا يزال يلبس صورة و يخلعها و تفاض عليه اخرى و هكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة فعلقة فعظاماً فجنيناً فمولوداً فرضيعاً فغلاماً فشاباً فكهلًا فشيخاً فميتاً فتراباً تكونت النطفة من تراب ثمّ عادت الى التراب فهو لا يزال بعد ان أنشأه باريه من امشاج ليبتليه فجعله سَمِيعاً بَصِيراً ... إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً في خلع و لبس أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يخلع صورة و يلبس اخرى و ينتقل من حال الى حال و من شكل الى آخر مريضاً تارة و صحيحاً و هزيلًا و سميناً و ابيضاً و اسمراً و هكذا تعتوره الحالات المختلفة و الاطوار المتباينة و في كل ذلك هو هو لم تتغير ذاته و ان تبدلت احواله و صفاته فهو يوم كان رضيعاً هو يوم صار شيخاً هرماً لم تتبدل هويته و لم تتغير شخصيته بل هناك اصل محفوظ يحمل كل تلك الاطوار و الصور و ليس عروضها عليه و زوالها عنه من باب الانقلاب فإن انقلاب الحقائق مستحيل فصورة المنوية لم تنقلب دموية او علقية و لكن زالت صورة المني و تبدلت بصورة الدم و هكذا فالصورة متعاقبة متبادلة لا متعاقبة منقلبة (اذ صورة لصورة لا تنقلب) و هذه الصورة كلها متعاقبة في الزمان لضيق وعائه مجتمعة في وعاء الدهر لسعته و المتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر و لا بد من محل حامل و قابل لتلك الصور المتعاقبة ما شئت فسمه مادة او هيولى او الأجزاء الاصلية كما في الخبر الآتي ان شاء اللّه و كما ان المادة ثابتة لا تزول فكذلك الصور كلها ثابتة في محلها فِي كِتٰابٍ لٰا يَضِلُّ رَبِّي وَ لٰا يَنْسىٰ و لٰا يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لٰا كَبِيرَةً إِلّٰا أَحْصٰاهٰا و قد عرفت في ما مرَّ عليك من المباحث ان الشي ء لا يقبل ضده و الموجود لا يصير معدوماً و المعدوم لا يصير موجوداً و انقلاب الحقائق مستحيل.

ثمّ ان هذا البدن المحسوس العنصري لا ريب في انه يتحصل من الغذاء و ان اجزاءه تتحلل و تتبدل فهذا الهيكل الجسماني بقوة الحرارة الغريزية التي فيه المحركة للقوى الحيوانية العاملة في بنائه و حفظه و تخريبه و تجديده كالجاذبة و الهاضمة و الدافعة و الماسكة و غيرها لا يزال في هدم و بناء و اتلاف و تعويض كما قال شاعرنا الحكيم في بيته المشهور:

و المتلف الشي ء ضامنه و قاعدة

(المتلف ضامن)

و في بيان اوضح ان علماء (الفزيولوجيا) علم اعضاء الحيوان قد ثبت عندهم تحقيقاً ان كل حركة تصدر من الانسان بل و من الحيوان يلزمها يعني تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية و الخلايا الجسمية و كل فعل ارادي او عمل فكري لا بد و ان يحصل منه فناء في الاعصاب و اتلاف من خلايا الدماغ بحيث لا يمكن لذرة واحدة من المادة ان تصلح مرتين للحياة، و مهما يبدو من الانسان بل مطلق الحيوان عمل عضلي او فكري فالجزء من المادة

ص: 44

الحية التي صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماماً ثمّ تأتي مادة جديدة تأخذ محل التالفة و تقوم مقامها في صدور ذلك العمل مرة ثانية و حفظ ذلك الهيكل من الانهيار و الدمار و هكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر خلع و لبس كما قال عزَّ شأنه: أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، و يكون قدر هذا الاتلاف بمقدار قوة الظهورات الحيوية و الاعمال البدنية فكلما اشتد ظهور الحياة و تكثرت مزاولة الاعمال الخارجية ازداد تلف المادة و تعويضها و تجديدها و من هنا تجد ارباب الاعمال اليدوية كالبنائين و الفلاحين و اضرابهم اقوى اجساماً و اعظم ابداناً بخلاف ذوي الاعمال الفكرية الذين تقل حركاتهم و تسكن عضلاتهم، ثمّ ان هذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة في الدم المتكونة من ثلاث دعائم هي دعائم الحياة و اسسها الجوهرية الهواء و الماء و الغذاء و لو فقد الانسان واحداً منها و لو بمدة قصيرة هلك و فقدت حياته.

و هذا العمل التجديدي عمل باطني سري لا يظهر في الخارج الا بعد دقة في الفكر و تعمق في النظر و لكن عوامل الاتلاف ظاهرة للعيان يقال عنها انها ظواهر الحياة و ما هي في الحقيقة الا عوامل الموت لأنها لا تتم الا باتلاف اجزاء من انسجتنا البدنية و اليافنا العضوية فنحن في كل ساعة نموت و نحيا و نقبر و ننشر، حتى تأتينا الموتة الكبرى و نحيا الحياة الأخرى.

اذاً فنحن بناء على ما ذكر في وسط تنازع هذين العاملين عامل الاتلاف و عامل التعويض يفنى جسمنا و يتجدد في مدار الحياة عدة مرات بمعنى ان جسمنا الذي نعيش به من بدأ ولادتنا الى منتهى اجلنا في هذه الحياة تفنى جميع اجزائه في كل برهة و تتحصل اجزاء يتقوم بها هذا الهيكل ليس فيها جزء السابقة و لا يمكن تقدير هذه البرهة على التحقيق يعني أي مقدار تتلاشى تلك الأجزاء جميعاً و تتجدد غيرها بموضعها نعم لا نعلم ذلك و لكن ينسب الى الفيزلوجي (موليشت) ان مدة بقائها ثلاثين يوماً ثمّ تفنى جميعاً و نقل عن (فلورنس) ان المدة سبع سنين، و قد اجرى العلماء المحققون في هذه الاعصار الامتحانات الدقيقة في بعض الحيوانات كالأرانب و غيرها فأثبت لهم البحث و التشريح تجدد كل انسجتها بل و حتى عظامها ذرة ذرة في مدة معينة، فكيف يتفق هذا مع ما يرتئيه الماديون و منكرو النفس المجردة في زعمهم ان الذاكرة قوة تنشأ من اهتزازات فسفورية تختزن في الخلية العصبية من الدماغ عند وصول التأثيرات الخارجية اليها نعم كيف يجتمع هذا مع ما تقرر في الفن و شهد به الاختبار و الاعتبار من ان كل ما فينا من الانسجة و العظام و الخلايا العصبية تتلاشى ثمّ تتجدد بمدة معلومة اقصى ما تتجدد به سبع سنوات، و لو كانت قوة التذكر و التفكر مادية و قائمة في خلايا الدماغ لكان اللازم ان نضطر في كل سبع سنين الى تجديد كل ما علمناه و تعلمناه سابقاً، و الحالة الراهنة المعلومة بالضرورة و الوجدان عندنا ان سيال المادة المتجدد و المجدد لما يندثر منا على الاتصال لم يحدث ادنى تغيير في ذاكرتنا و لم يطمس أي شعلة من علومنا و معارفنا و لعمري ان هذا لأقوى دليل على وجود قوة فينا مدركة شاعرة مجردة عن المادة باقية بذاتها مستقلة في وجودها بقيمومية مبدئها، محتاجة الى آلاتها المادية في تصرفها متحدة معها في ادنى مراتبها، و دثور المادة لا يستوجب دثورها و لا دثور شي ء من كمالاتها و لا من مدركاتها و لا من معلوماتها كيف لا؟ و لا تزال تخطر على بالنا في وقت الهرم امور وقعت لنا ايام

ص: 45

الشباب بل ايام الصبا و ما قبله، و كيف كان فإن من الوضوح بمكان ان كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا و عدم تغيرها مع تغير و تبدل جميع ذرات اجسامنا.

درس 8: النبوة

اشارة

عرفت ان العناية المقدسة لطفت بالبشر فانزلت كتباً تتكفل بتعريف صوالحهم، و ضارهم و نافعهم، منشورة تلك الكتب على ايدي رسل منه و هم من جنس البشر ليألف البشر اليهم و يقتدون بهم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ و اولئك الرسل من اول الدهر الى اليوم لم يحصهم عند ضابط على التحقيق لكن المذكور منهم في القرآن الكريم بصريح اسمه خمسة و عشرون:

آدم، نوح، ادريس، ابراهيم، اسماعيل، اسحاق، يعقوب، يوسف، موسى، هارون، داود، سليمان، صالح، هود، ذو الكفل، لوط، شعيب، ايوب، الياس، يونس، زكريا، يحيى، اليسع، عيسى، محمد صلوات اللّه عليه و على آله و عليهم اجمعين.

و اولو العزم منهم خمسة، أي الذين عمت شرائعهم كل البشر برهة من الزمن، و هم: نوح، ابراهيم، موسى، عيسى، محمد" ص".

و الكتب السماوية ايضاً كثيرة و المذكور منها في القرآن المجيد خمسة:

صحف ابراهيم، توراة موسى، زبور داود، انجيل عيسى، فرقان محمد" ص".

(درس 9): صفة الأنبياء

النبي اعم من الرسول فكل رسول نبي و لا عكس لأن الرسول صاحب شريعة و احكام جديدة و النبي يجوز ان يكون داعياً لأتباع شريعة من قبله.

و الانبياء بشر لهم منصب السفارة بين اللّه و بين عباده، معصومون بالاختيار عن الكذب فهم يقدرون على الكذب و لكن لا يكذبون كما انهم معصومون عن مخالفة احكام شريعتهم و عن كلما يستقبحه العقل فلا يجوز عليهم الكذب و لا الخيانة و لا الظلم و لا الحرص على الدنيا و لا الطمع و هكذا كما هو من هذا القبيل، و القول الجامع انه يلزم في النبي و الامام ان يكون متحلياً بكل فضيلة، متخلياً عن كل رذيلة.

و من هذه الدروس يقدر التلميذ ان يجيب عن هذه السؤالات:

ما حقيقة الايمان بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر؟، ما معنى النبي و ما الفرق بينه و بين الرسول؟، كم عدد الانبياء المذكورين في القرآن و الكتب المذكورة فيه؟، ما الذي يلزم في النبي و الامام و ما الذي لا يجوز عليهما؟.

و يحسن تعقيب هذه الدروس بالكلام في مختصر من ترجمة كل واحد من مشاهير الانبياء و الأئمة" عليهم السلام".

ص: 46

(درس 10): آدم

(آدم) ابو البشر اول انسان مشى على سطح هذه الكرة. و انتشرت ذراريه عليها. اتفقت اديان البشر كلها، و نصّت الكتب السماوية بأجمعها ان اللّه سبحانه خلق آدم من تراب (أي من هذه الأرض و عناصرها) خلقاً فجائياً من غير تناسل. ثمّ بعد ان نفخ فيه من روحه (أي روح العلم و الحياة) اسجد له ملائكته سجود اكرام و اعظام لا سجود عبادة فكان محراباً او قبلة للملائكة.

ثمّ خلق من فاضل طينته على الصحيح من اخبار اهل البيت" عليه السلام" زوجه حواء ام البشر و إليه الاشارة بقوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا و في بعض الاخبار انها خلقت من احد اضلاعه (و لعله كناية عن حنو كل من الزوجين على الآخر و انه ينبغي بل يجب ان يعطف كل منهما على صاحبه انعطاف الأضلاع على ما تحتويه).

و المتيقن من الوحي ان اللّه سبحانه اسكنه جنة من جنانه العالية. و تنفيذاً لسابق علمه تعالى في ان تعمر الأرض به و بذريته اهبطه بعد المحنة و الابتلاء الى الأرض فهبط على بعض جبال الهند و اهبط بزوجته في مكان آخر ثمّ تلاقيا و عرف كل منهما

ص: 47

الآخر على جبل عرفات. ثمّ ولد لآدم عدة اولاد اولهم هابيل الذي قتله اخوه قابيل ثمّ ندم على ما فعله كما قصَّ اللّه تعالى قصتهما في سورة الاعراف.

و اجل اولاد آدم و اكرمهم على اللّه (شيث) و معناه هبة اللّه و هو من كبار الأنبياء و وصي آدم و من ولده و بنات اخيه يافث تناسل البشر. و اقرب الأقوال في عمر آدم انه عاش من بدأ نفخ الروح فيه الى ان مات ما يناهز الالف سنة و قيل انه دفن بغار في جبل ابي قبيس بمكة.

و ماتت حواء بعده بسنة و دفنت الى جنبه، و في بعض اخبار اهل البيت" عليه السلام" ان نوحاً نقل عظامه قبل الطوفان الى النجف.

(درس 11): نوح

نوح (صفي اللّه) ابن لمك ينتهي نسبه الى شيث بسبعة آباء، ولد بعد ان مضي الف و ستمائة و اثنتان و اربعون سنة من هبوط آدم. و بعث بالنبوة و هو ابن اربعمائة و ستين سنة. فدعا قومه و كانوا يعبدون الاوثان الى عبادة الحق و كانوا يهزءون به و ربما كانوا يخنقونه حتى يغشى عليه فإذا افاق قال اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون.

و ما اتى قرن الا كان اخبث مما قبله، فلما يئس منهم دعى عليهم فأوحي اليه ان يصنع السفينة من خشب الساج فصاروا يسخرون منه و يقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة و لما مضى على قيامه بالدعوة مائة و اربعون سنة و تم صنع السفينة حمل فيها اولاده الثلاث سام، و حام، و يافث و نساءهم و تخلف ابنه يام فكان من المغرقين و حمل من كل نوع من الدواب زوجين و ارتفع الماء على اعلى الجبال خمسة عشر ذراع و جرت السفينة فيه و كان بين فيضه و غيضه سنة و قيل ستة اشهر. و لما غاض الماء استقرت السفينة على الجودي (جبل بالموصل) و عاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة و توفي و هو ابن الف سنة الا خمسين عاماً. و اتفق المؤرخون ان التناسل بعد شيث صار من اولاد نوح فجميع من على الأرض من البشر ينتهون اليهم و كان الطوفان بعد 2242 سنة من هبوط آدم على أقوى الأقوال.

(درس 12): ابراهيم" عليهم السلام"

(خليل اللّه ابراهيم) بن تارخ و آزر عمه تكفل بتربيته بعد موت ابيه فدعي ابا له و كان آزر يصنع الاصنام و يدفعها لإبراهيم لبيعها فكان ابراهيم ينادي عليها و هو صغير (من يشتري ما يضره و لا ينفعه).

ولد ابراهيم ببابل من ارض العراق و ملكها نمرود بن كوش فلما فشا امر ابراهيم في تفنيد قومه في عبادة الاصنام اخذه ذلك الجبار و رماه في نار انجاه اللّه منها فآمن به جمع من قومه و آمنت به سارة بنت عمه و بنت خالته فتزوجها و كانت ذات حظ من المال و الجمال، ثمّ ان ابراهيم و من آمن معه هاجروا الى حران ثمّ الى مصر ثمّ الى الشام و اقام بين الرملة و ايليا. و كانت سارة لا تلد فوهبت له جاريتها هاجر فولدت اسماعيل و عمر ابراهيم يومئذ ثمانون سنة فحزنت سارة فوهب اللّه لها اسحاق و هي بنت تسعين سنة و هاجر ابراهيم بهاجر و ولدها اسماعيل الى مكة فأسكنهم بها و فيها يومئذ قبيلة من العرب الاولين تسمى جرهم فتعرب

ص: 48

اسماعيل فسمي العرب من نسله بالعرب المستعربة و إليه يرجع اكثر قبائل العرب من الجاهلية الى اليوم، و كان البيت الحرام قد نهدم بعد الطوفان فأمر اللّه ابراهيم فبناه هو و ولده اسماعيل، و عاش ابراهيم مائة و خمسة و سبعين سنة بعد موت زوجتيه سارة و هاجر و خلفه ولداه اسماعيل و له اثنى عشر ولد هم اصول قبائل العرب. و اسحاق ولده يعقوب و منه الاسباط الاثنى عشر و إليهم ترجع طوائف بني اسرائيل و كانت ولادة ابراهيم بعد مضي الف و ثمانين سنة من الطوفان.

و اسرائيل الذي تنتسب اليه عامة بني اسرائيل هو يعقوب بن اسحاق ابو الاسباط الاثنى عشر.

ص: 49

(درس 13): موسى" عليه السلام"

(موسى كليم اللّه) ابن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم.

و لاوي احد الاسباط الاثني عشر و شعب لاوي شعب كبير في بني اسرائيل و كانوا مستعبدين لفراعنة مصر بعد ان دخلوها أيام يوسف بن يعقوب و بقوا في اسر الاستعباد من بعده الى ان حررهم موسى و كانت مدة استعبادهم ما يناهز مائتي سنة. ولد موسى في مصر لمضي 250 سنة من وفاة ابراهيم، و كان فرعون مصر امر بقتل كل مولود من الاسباط فخافت امه فجعلته في تابوت و ألقته في اليم فالتقطته آسيا امرأة فرعون و ربته و لما كبر وجد يوماً قبطياً يخاصم اسرائيلياً فقتل القبطي دفاعاً عن الاسرائيلي و اشتهر ذلك فخاف و هرب قاصداً مدين فاتصل بكبيرها شعيب و هو من الانبياء على شريعة ابراهيم فتزوج ابنته صفورا، و اقام يرعى غنم شعيب عشر سنوات ثمّ سار بأهله قاصداً مصر فرأى في بعض الطريق ناراً لما دنى منها رأى نوراً ممتداً الى السماء من شجرة عوسج فخاف فشد اللّه قلبه و سمع الوحي بالنبوة ثمّ دخل مصر و اجتمع بأخيه هارون و قال له ان اللّه ارسلنا الى فرعون فانطلقا اليه و طلبا منه اطلاق بني اسرائيل على ان يخرجا بهم من مصر فامتنع فاراه الآيات الباهرة من اليد البيضاء و العصا و غيرهما و بعد العجز عن المقاومة بالحجة و البرهان اذن لبني اسرائيل بالسير مع موسى فلما ساروا ندم فرعون فلحقهم بعسكره و اقتحم البحر فغرقوا.

و قصد موسى ان يهاجر بمن معه من بني اسرائيل و كانوا سبعين الفاً او اكثر مدينة اريحا و هي بلد العمالقة فامتنع بنو اسرائيل و قٰالُوا يٰا مُوسىٰ إِنَّ فِيهٰا قَوْماً جَبّٰارِينَ وَ إِنّٰا لَنْ نَدْخُلَهٰا ... مٰا دٰامُوا فِيهٰا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقٰاتِلٰا إِنّٰا هٰاهُنٰا قٰاعِدُونَ. فضلوا في التيه أَرْبَعِينَ سَنَةً و هناك مات هارون و هو اكبر من موسى بثلاث سنين ثمّ مات بعده بقليل موسى و عمره 120 سنة و قام بعده بالنبوة و تدبير بني اسرائيل وصيه يوشع بن نون و ينتهي نسبه الى افرايم بن يوسف بن يعقوب و هو الذي حاصر اريحا ببني اسرائيل و فتحها بالسيف و اخرجهم من التيه بعد الأربعين سنة و به اتسع ملك بني اسرائيل و صاروا بعده مستقلين يحكمهم ملوك منهم الى ان مزقهم بختنصر و ابادهم قتلًا و تشريداً و احرق جميع نسخ التوراة. و كان مدة ملكهم الى ان استولى عليهم (بختنصر الملك البابلي) الف سنة.

(درس 14): عيسى" عليهم السلام"

(عيسى روح اللّه). امه مريم بنت عمران بن ماتان ينتهي نسبه الى رحبعم بن سليمان بن داود و أم مريم حنة اخت اليصابات زوجه زكريا زوجة زكريا ام يحيى المعروف عند النصارى (يوحنا المعمدان فهو و مريم اولاد خالة) و لما ولدت مريم تكفلها زوج خالتها زكريا و لما كبرت اولدت بمشيئة اللّه عيسى من غير اب في قرية قرب بيت المقدس تسمى (بيت لحم) و كانت خالتها ولدت يحيى قبله بستة اشهر. و انكر قومها ولادتها من غير فحل و اتهموا به زكريا تارة فقتلوه و يوسف النجار اخرى فشردوه و هو ابن عمها يعقوب ابن ماتان و كان نجاراً و حكيماً فسار بها و بولدها الى مصر و اقاموا هناك اثنتي عشر سنة ثمّ عادوا الى الشام

ص: 50

فنزلوا الناصرة و بها سميت النصارى و بلغ ثلاثين سنة بعثه اللّه رسولًا الى الناس لتكميل شريعة موسى و كانت ولادة عيسى في الثالثة و الأربعين من ملك اغسطوس الروماني و بعد ان عمده يحيى بن زكريا في نهر الاردن مات يحيى و لذا سمي بالمعمدان و ظهرت لعيسى المعجزات الباهرة فأحيا ميتاً اسمه عازر و ابرء الاكمه و الابرص و انزلت عليه المائدة و لكن يهود عصره لم يحسبوه الا دجالًا فعزموا على قتله بأمر فيلاطوس و لقبه هردوس الحاكم من قبل الملك (طيباريوس) الذي ملك بعد اغسطوس و كانت فلسطين و ما يليها يومئذ مستعمرة للدولة الرومانية و كان الحواريون الملازمون له اثنى عشر اشهرهم شمعون الصفا و هو بطرس و ارباب الاناجيل الاربعة (مارقس) و (يوحنا) و (لوقا) و (متى) و عند المسلمين حسبما نطق به القرآن الشريف ان اللّه سبحانه رفع عيسى الى السماء و القى شبهه على الحواري الذي دلَّ اليهود عليه و اغراهم بصلبه فقبضوا عليه بزعم انه عيسى و ربطوه بحبل و قادوه قائلين له انك كنت تحيي الموتى أ فلا تخلص نفسك و البسوه اكليل الشوك و شهروه في البلد ثمّ صلبوه على الخشب و استوهب يوسف النجار جسده من الحاكم و دفنه. و عند النصارى ان جميع تلك الاهوال جرت على ذات المسيح و انه قام من قبره بعد ثلاثة ايام و صعد الى السماء و عاشت مريم بعده ست سنوات و عاش عيسى في الأرض ثلاثة و ثلاثين سنة و نبوته منها ثلاث سنوات و كان بين مولد المسيح الذي عليه بناء التاريخ المسيحي الى اليوم و بين وفاة موسى الف و سبعمائة سنة تقريباً و بينها و بين الطوفان 3340 و بينها و بين الهجرة التي عليها بناء التاريخ الاسلامي 622.

(درس 15): محمد" ص"

اشارة

(محمد حبيب اللّه) ابوه عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن مرة بن كعب بن غالب بن فهر بن مالك، و من فهر تفرعت بطون قريش و كل من انتسب اليه فهو قرشي وسمي بذلك لأنه جمع اشتات بني فهر حول الحرم فسمي قريشاً أي جامعاً و ينتهي عمود نسبه الى عدنان ثمّ الى اسماعيل.

و أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الجد الخامس للنبي" ص" ولد عند اكثر المسلمين يوم الثاني عشر من ربيع الاول و عند اكثر الشيعة يوم السابع عشر منه عام الفيل بمكة في شعب ابي طالب، و مات ابوه عبد اللّه و هو حمل و ماتت امه و هو ابن اربع سنين او ست و كفله جده عبد المطلب و توفي جده و هو ابن ثمان فكفله عمه ابو طالب شقيق ابيه عبد اللّه لأمه و ابيه.

و لما بلغ من العمر ثلاثة عشر سنة اخرجه ابو طالب معه في تجارة الى الشام فلما كان في بعض الطريق رأي بحيراء الراهب غمامة تظل النبي (1) فقال لأبي طالب

ارجع بهذا الغلام و احتفظ عليه فسيكون له شأن عظيم.

و كانت خديجة بنت خويلد بن اسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ذات شرف في قريش و لها اموال و تجارة و كان النبي" ص" قد عرف بالصدق و الامانة حتى صار يسمى محمداً الأمين فعرضت على النبي ان يخرج ببضاعة لها الى الشام فسافر السفرة الثانية اليها


1- ذكر ذلك اكثر المؤرخين منهم اكبر مؤرخ من النصارى ابو الفرج العبري في كتابه (مختصر الدول) المطبوع في بيروت في مطبعة الآباء (اليسوعيين).

ص: 51

و ارسلت معه غلاماً لها يسمى ميسرة فربح النبي و رجع الى مكة و صار ميسرة يحدث خديجة بما شاهد من كرامات النبي" ص" فرغبت به لما توسمت فيه من الشأن الباذخ فكانت اول امرأة تزوجها و هي اول من اسلم من النساء و بقيت معه بعد البعثة عشر سنوات و ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ثمّ تزوج بعدها عشر او احد عشر امرأة و ما اقترن بواحدة منهن الا لمصلحة سياسية تعود الى نشر الدعوة و تعزيز جانب الاسلام الى مصالح اخرى يضيق المقام عن عدها.

(درس 16): بعثة النبي" ص"

و لما بلغ الاربعين من العمر نزل عليه الوحي في الليلة السابعة و العشرين من رجب على الارجح. و امره اللّه سبحانه بدعوة الناس عامة و قريش خاصة الى توحيد اللّه عزَّ شأنه و خلع عبادة الاوثان فقاومته قريش اشد المقاومة. و اضطهدته و من آمن به أسوأ الاضطهاد و كان المحامي عنه و الناصر له خديجة بالاموال و ابو طالب و اولاده بالمنعة و الرجال فلما مضى لبعثته عشر سنوات مات ابو طالب و خديجة في عام واحد يسمى عام الأحزان و لما لم يبق بمكة من يقدر على كف عادية قريش عنه هاجر الى المدينة بعد ثلاثة عشر من البعثة و كان قد بايعه سبعون نفر من وجوه الأوس و الخزرج بمكة سراً و هي بيعة العقبة و هاجر بعده كل من آمن به تدريجاً فصار حزبه بالمدينة قسمين المهاجرين و الانصار.

فجدت و اجتهدت قريش في تعويق مساعيه و اشغاله عن نشر دعوته فاضطر الى دفاعهم عن حوزته فوقعت المحاربة المشهورة معهم في بدر و نصره اللّه عليهم و هم اقوى عدة و اكثر عدداً فقتل و اسر و غنم و ما نجى منهم الا القليل و كان اصحاب النبي

ص: 52

313 و ليس معهم غير فرسين و كانت قريش زهاء الف و فيهم مائة فرس و ذلك في 17 شهر رمضان السنة الثانية من الهجرة، ثمّ تابعت الغزوات و الفتوح تترى، و اللّه سبحانه يزيد الاسلام بها عزاً و نصراً، الى تم له النصر و استقام الأمر بفتح مكة استأمنه اهلها فآمنهم و دخلها صلحاً.

و لما تم له هذا الفتح المبين بعث الدعاة و الكتب الى الملوك يدعوهم الى الاسلام و لم يحارب الا من بدأه بالحرب او نقض عهده. او اعان عليه عدوه او قتل رسوله.

(درس 17): وفاة النبي" ص"

و كانت آخر غزواته غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة حارب بها جيش الروم في حدود الشام و كان جيش المسلمين في هذه الغزاة ثلاثين الفا و الخيل عشرة آلاف و هذا بالإضافة الى غزوة بدر رقي مدهش لم يعهد في التاريخ مثله و لعله من آيات النبوة. و انتهى الأمر في هذه الغزوة الى الصلح و دفع الجزية. و لما كانت السنة العاشرة من الهجرة صار الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّٰهِ أَفْوٰاجاً و نفذت الدعوة الى اقاصي اليمن و تخوم مصر و العراق و الشام و البحرين، و اسلم عامة اهل اليمن و ملوك حمير و حج النبي" ص" في هذه السنة حجة الوداع و نعيت اليه نفسه بنزول سورة النصر و آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً و دخلت السنة الحادية عشر و في شهر صفر منها مرض النبي" ص" و اجاب داعي ربه عند اكثر المؤرخين في الثاني عشر من ربيع الاول الموافق ليوم ولادته و في اخبار اهل البيت" عليه السلام" الثامن و العشرين من شهر صفر و دفن تحت فراشه الذي توفي عليه و عمره على الأصح ثلاث و ستون سنة و اشهر، و ولد له من خديجة القاسم و به يكنى و الطيب و الطاهر و عبد اللّه ماتوا صغاراً، و زينب و رقية و أم كلثوم و فاطمة و لم يبق بعده الا هي و منها نسله المبارك و كانت اعزّ خلق اللّه عليه. و ولد له من غير خديجة ابراهيم من مارية القبطية و مات ابن سنتين تقريباً، و اختلف في عدد غزوات النبي" ص" بين قائل 19 و قائل 27 و المشهور منها الذي وقع فيها القتال تسع: بدر، واحد، و الخندق، و قريظة، و المصطلق، و خيبر، و الفتح، و حنين، و الطائف. و أما البعوث و السرايا التي لم يحضرها بنفسه فقيل خمسة و ثلاثون و قيل ثمان و اربعون.

(درس 18): الأئمة الاثنى عشر" عليه السلام"

عرفت ان من متممات الايمان الاعتقاد بامامة الأئمة الاثنى عشر و عصمتهم من الجرائم صغيرة او كبيرة (فأولهم) امير المؤمنين علي بن ابي طالب" عليهم السلام"، و ابوه ابو طالب كافل رسول اللّه و مربيه و اخو ابيه عبد اللّه لأمه و ابيه.

و أمه فاطمة بنت اسد بن هاشم فهو هاشمي من هاشميين ولد يوم الجمعة 13 رجب في الكعبة بعد مولد رسول اللّه بثلاثين سنة و قبض شهيداً بسيف ابن ملجم في مسجد الكوفة ليلة 21 من شهر رمضان و دفن في النجف سنة 40 ه و عمره عمر رسول اللّه ثلاث و ستون سنة.

ص: 53

(2) ولده الحسن الزكي امه سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد" ص" ولد بالمدينة نصف رمضان سنة اثنتين من الهجرة و قيل ثلاث و قضي مسموماً فيها سابع صفر سنة خمسين و عمره سبع و اربعون سنة و دفن بالبقيع.

(3) اخوه الحسين الشهيد ولد بالمدينة 3 شعبان سنة ثلاث من الهجرة و قضى شهيداً في كربلاء عاشر محرم سنة 61 و فيها قبره الشريف و عمره 58 سنة.

(4) ولده زين العابدين علي بن الحسين ولد بالمدينة سنة 38 و قضى فيها يوم السبت اواخر محرم سنة 95 و عمره 57 سنة و أمه شاه زنان بنت يزدجرد آخر ملوك الأكاسرة.

(5) ولده محمد الباقر ولد بالمدينة 3 صفر سنة 57 و قضى فيها يوم 7 ذي الحجة سنة 114 و أمه فاطمة ام عبد اللّه بنت الحسن السبط فهو علوي من علويين و عمره 57 سنة.

ص: 54

(6) ولده جعفر الصادق ولد بالمدينة 17 ربيع الاول سنة 83 و قضى فيها في شوال سنة 148 و عمره 65 و أمه ام فروة بنت الفقيه القاسم بن محمد بن ابي بكر و قبره و قبر ابيه وجده مع عمهم الحسن في البقيع في بقعة واحدة.

(7) ولده موسى الكاظم ولد بالأبواء موضع بين مكة و المدينة سنة 128 و قضى مسموماً ببغداد في حبس السندي بن شاهك في 25 رجب سنة 181 و دفن في مقابر قريش و أمه حميدة ام ولد.

(8) ولده علي بن موسى الرضا ولد بالمدينة سنة 148 و قضى مسموماً بطوس و فيها قبره في اواخر صفر سنة 203 و أمه ام البنين ام ولد.

(9) ولده محمد الجواد ولد بالمدينة في شهر رمضان سنة 195 و قبض ببغداد اواخر ذي القعدة سنة 220 و دفن مع جده الكاظم في مقابر قريش و أمه الخيزران ام ولد.

(10) ولده علي الهادي ولد بالمدينة نصف ذي الحجة سنة 212 و قبض بسر من رأى 3 رجب و دفن فيها في داره سنة 254 و أمه سمانة ام ولد و عمره 42 سنة.

(11) ولده الحسن العسكري ولد بالمدينة في شهر ربيع الآخر سنة 232 و قبض بسر من رأى 8 شهر ربيع الاول سنة 260 و دفن مع ابيه و أمه حديثة او ولد.

(12) ولده الامام المنتظر محمد المهدي ولد بسر من رأى نصف شعبان سنة 256 (نور) و أمه نرجس احدى بنات ملوك الروم عجل اللّه فرجه.

الباب الثاني: في الفروع

اشارة

اهم التكاليف الدينية الصلاة فانها عمود الدين بمعنى ان الدين يتوقف عليها توقيف الخيمة على العمود و لذا ورد في الاخبار الصحيحة انه ليس بين المسلم و بين ان يكفر الا ان يترك الصلاة. و ان تركها تهاوناً بها على حد الكفر بالله. و من بعض فوائدها في العاجلة انها تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ، و سر ذلك انها تذكر اللّه تعالى و عظمته و تبعث في القلب خوفه و خشيته، و توضح للانسان ضعفه و خسته، و اذا خضعت النفس و تطامنت نزلت عليها السكينة، و استولت عليها الطمأنينة، و تطهرت من لوث الرذائل فلا عجب و لا كبر و لا حرص و لا حسد و لا شي ء من امثالها اذ منشأ كل تلك الذمائم التي هي مثار الشرور في العالم، و تكالب بني آدم انما هو نخوة النفس و طيشها و غفلتها عن خالقها العظيم و عن مبدأها و منتهاها فاذا استحضرت كل ذلك ذلت. و اذا ذلت عزت وجلت، و في الحديث (من تواضع رفعه اللّه و من تكبر و ترفع وضعه اللّه)، و لو اردنا ان نشرح اكثر فوائد الصلاة و اسرارها و منافعها في الدنيا فضلًا عن مالها من الاجر عند اللّه تعالى لطال بنا المقام، و في هذا القدر كفاية ان شاء اللّه.

ننقل بهذه المناسبة جزء من ما كتبه المؤلف عن اسرار الصلاة في شرحه كتاب سفينة النجاة للمرحوم حجة الاسلام اخيه الشيخ احمد آل كاشف الغطاء:

بل كل تلك الاعمال المتسقة المرتبة بذلك الترتيب الخاص و الاوضاع المعينة حركات رياضية لها اعظم الاثر في نشاط الاعضاء و تقلص العضلات و قوتها و تماسكها و تنبيه العصب الحساسة، و تحريك الدورة الدموية، و ايقاد الحرارة الغريزية التي تهيئ بيئة داخلية ثابتة و تنشط القوى لأعمال الفكر الصحيح، و معلوم ان وظيفة العضلات لا تقف عند حد

ص: 55

حركة انتقال الجسم من مكان الى آخر بل لها وظائف اهم و اعم و هو تأثيرها النافع في جميع مقوات البدن و مكائن التحليل و التبديل و تنبيه الجهاز الهضمي و العمود الفقري فتلك الحركات تمارين صحية و رياضة طبيعية لها في كل عضو اثر خاص عميق منظمة ابدع تنظيم في اوقات معينة كل يوم بل هي مع ذلك و صفة طبية، و طراز بديع في تحصيل المناعة للمفاصل و العظام و الاعصاب و القلب و الرئة و المعدة بل و الرئيس الاعلى و هو الدماغ و لذا ورد في بعض الاخبار ان الصلاة مصحة للابدان نعم هي مبتكرة و بديعة في تنشيط مقومات الجسم و اعانة كل جزء من اجزاء البدن على اداء وظيفته و عمله و ما خلق من اجله فاذا ادى كل عضو وظيفته جاءت الصحة و تموج في الجسم ماء الحياة و تدفق فيه نمير البهجة و النشاط و المرح و تمكنت النفس من صحيح الافكار فيما يجري على لسانها من القراءة و الاذكار، و خشعت الجوارح و خضعت الاطراف و عرجت الروح الى صفوف الملأ الاعلى و استحقت الاندماج في زمر الملائك في حظيرة القدس متجولة في صوامع الملكوت، و جوامع الجبروت، و اطمأنت بوقوفها مبتهجة مطمئنة بمشاهدة تلك العظمة و نوديت من افق تلك الاصقاع

ص: 56

المتعالية يٰا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلىٰ رَبِّكِ رٰاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبٰادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي فهل تيقنت من كل هذا و هو قليل من كثير، و جرعة من غدير، ان الصلاة رياضة بدنية. و رياضة روحية. رياضة معتدلة. رياضة هادئة. و انها تمنح الانسان بالمواظبة على ادائها في اوقاتها الخاصة قوة الارادة و ضبط الوقت و حفظ النظام و رسوخ ملكة الوفاء بالعهد و صدق الوعد الى كثير من امثال هذه السجايا و المزايا، فأين هذه الرياضة من رياضة الالعاب الصبيانية من النط و القفزان، و الوثبة و النزوان، مما هو بالاطفال اليق، و هي بهم الصق، و هل الصلاة الا نظافة و تطهير، و عبرة و تفكير، و حركات رياضية و جهود عقلية و مكاشفات روحية و ايسر اثر من آثارها، و ثمرة من جني ثمارها انها اذا اقيمت بشرائطها و اديت بوظائفها المعتبرة فيها و سننها المرعية بها ضمنت لفاعلها النهي عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ، وَ لَذِكْرُ اللّٰهِ فيها أَكْبَرُ، فهل بعد هذا ايها المسلم تتثاقل من المبادرة الى هذا العمل العظيم، و الخير الجسيم الذي لا يحتاج الى اكثر من ربع ساعة او نصف ساعة ثمّ السعادة الابدية من حين القيام بها الى قيام الساعة، و فيها للمتدبر فيها مضافاً الى ما اشرنا اليه من المنافع الجسمية و الروحية روح و بهجة، و غذاء و لذة قد لا توجد في شي ء من لذات الدنيا و اعمالها، و لكن لأهلها وَ إِنَّهٰا لَكَبِيرَةٌ إِلّٰا عَلَى الْخٰاشِعِينَ و من ذاق عرف، و من عرف وصف و من وصف انصف، و من اجل هذا و ما هو اكثر منه جعلها الشارع بذلك المقام من الاهمية فصيرها عمود الدين و معراج المتقين و لم يكن بين المسلم و الخروج من الاسلام سوى ترك فريضة واحدة و لو اتسع لنا الوقت و نفست من خناقنا هذه الظروف القاسية و خفت وطأة ما نلاقيه من هذه الامة الجاهلة العمياء لكتبنا انفس كتاب واسع في مزايا الصلاة و حكمها و اسرارها و منافعها الاجتماعية و الصحية و غيرها مما يدلك على عظمة دين الاسلام و تعرف بحق انه اشرف الاديان و كذلك سائر تشريعاته و احكامه و بالله المستعان و لا حول و لا قوة الا به و هو حسبنا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ.

ص: 57

(درس 19): الماء

الماء هو الذي لا يحتاج في التعبير عنه الى لفظ آخر فمثل ماء الورد و ماء الرمان و كل معتصر او ممزوج بجسم آخر بحيث لا يطلق لفظ الماء وحده عليه خارج عن الماء و ينجس بمجرد الملاقاة و ان كان بغاية الكثرة و هو المضاف و أما الاول و هو المطلق فقسمان: قسم ينجس بملاقاة النجاسة و انما ينجس بتغير لونه او طعمه او ريحه بسبب وقوع النجاسة فيه و المدار على تغير اوصافه الثلاثة بها و ان لم يكن باوصافها و هو ثلاثة انواع:

(1) الجاري على الأرض من مادة نابعة و يلحق به ماء الآبار و العيون و نحوها مما ينبع و لا يجري.

(2) ماء المطر حال تقاطره من السماء فلو لاقى نجاسة في الارض حال اتصال التقاطر لم ينجس الا اذا تغير.

(3) الراكد الذي لا مادة له من السماء و لا من الارض اذا كان قدر كر فما زاد و هو بحسب الوزن مائتان و اثنتان و سبعون حقة و نصف حقة اسلامبول التي هي مائتان و ثمانون مثقالًا صيرفياً و بحسب الحجم ما بلغ مكسرة ثلاثة و اربعين شبراً الا ثمن شبر، و ما عدا ذلك من المياه الراكدة التي لا مادة لها و لا تبلغ الكر فهي تنجس بمجرد الملاقاة.

و يطهر الماء المتنجس بها باتصاله بالكر او الجاري بحيث يصير المجموع ماء واحداً او بوقوع شي ء من المطر عليه مع زوال التغير ان كان متغيراً بالنجاسة.

(درس 20): النجاسات

النجاسات و هي الاعيان التي حكم الشارع باجتنابها و اجتناب ملاقيها بالأكل و الشرب و الصلاة و الطواف و اوجب تنزيه المساجد و القرآن و كل محترم منها و هي عشرة (1) و (2) البول و الغائط مما لا يؤكل لحمه من ذي النفس السائلة يعني ما له

ص: 58

عروق تشخب دماً عند القطع. (3) المني من ذي النفس مطلقاً. (4) الميتة كذلك و هي التي اخرجت روحها بغير الذبح الشرعي. (5) الدم من خصوص ذي النفس ايضاً فدم البق و السمك و نحوهما مما ليس له عروق تشخب دماً غير نجس و ان حرم اكله لكونه من الخبائث. (6) و (7) الكلب و الخنزير البريان. (8) الكافر. (9) الخمر و كل مسكر مائع بالاصالة فمثل الحشيشة و الترياق طاهر و ان حرم شربهما. (10) الفقاع و ان لم يسكر و هو شراب يتخذ من الشعير على وجه مخصوص، و تثبت نجاسة الشي ء بالعلم بملاقاته لشي ء من هذه العشرة برطوبة اما مع اليبوسة فلا نجاسة. و تثبت ايضاً بالبينة و هي الشاهدان العادلان و بالعدل الواحد و يقول ذي اليد مطلقاً و يجب ازالتها عن الثوب و البدن في الصلاة و الطواف و عن المساجد و عن خصوص مسجد الجبهة و ان كانت يابسة و المحمول النجس الذي لا يلوث الثياب لا بأس به و كذا لا بأس بنجاسة ما لا يستر كالتكة و الجواريب، و يعفى في الصلاة عن دم القروح و الجروح و عن مقدار الانملة من سائر الدماء غير دم النساء.

(درس 21): المطهرات

(المطهرات) امور:

(1) الماء و هو اعظمها و اعمها و يطهر كل شي ء حتى ما كان من جنسه و لكن مع زوال عين النجاسة و يكفي المرة في التطهر به مطلقاً و الاحسن الثلاث و العصر بينها خصوصاً في مثل الثياب. و يتعين الثلاث في تطهير الآنية من ولوغ الكلب مع التعفير بالتراب، و السبع من ولوغ الخنزير بعد التعفير.

(2) الارض الجافة تطهر باطن النعل المتصل بها و اسفل القدم بالمشي عليها مع زوال العين.

(3) الشمس تطهر ما تجففه من الحصر و البواري و ما لا ينقل عادة كالأرض و الجدران و الاخشاب و الابواب حتى مثل الزرع و الفواكه و الاشجار مع زوال العين.

(4) الاستحالة كالخشب يصير رماداً او دخاناً او بخاراً و العذرة دوداً او تراباً و المني يصير انساناً و هكذا.

(5) الانقلاب كالخمر يصير خلًا.

(6) الاسلام يطهر بدن الكافر و جميع ما عليه.

(7) خروج الدم المعتاد من الذبيحة يطهر ما يتخلف من الدم فيها.

(8) غيبة المسلم و من بحكمه كطفله المميز مع علمه بالنجاسة و احتمال التطهر.

(9) التبعية كأواني الخمر اذا انقلب خلًا.

(10) زوال عين النجاسة عن بدن الحيوان الطاهر كالشاة و الفرس و عن بواطن الانسان كأنفه و فمه.

(درس 22): قاعدتان شرعيتان

قاعدتان شرعيتان مهمتان:

ص: 59

الاولى: كل شي ء شككت في طهارته و نجاسته فهو لك طاهر و لا تعتني باحتمال نجاسته و ان كان الاحتمال قوياً.

الثانية: كل شي ء شككت في انه حلال اكله او حرام فهو حلال لك الا ما كان من حيوان كاللحوم و الشحوم و الادهان و نحوها. نعم كل ما اخذ من مسلم او من سوق المسلمين و شككت فيه فهو حلال يجوز اكله و شربه و استعماله و الصلاة فيه و لا يجب الفحص عنه، و يلحق بهما قواعد اخرى و هي كل مغصوب فاستعماله حرام و الوضوء به باطل مع العلم بغصبيته و ان كان الغاصب غيرك. و كل اواني الذهب يحرم استعمالها بجميع انحاء الاستعمال و جلود الميتة نجسة ابداً و لا تطهر بالدبغ و لا يجوز استعمالها مطلقاً اما مع الشك بأنها من الجلود او غيرها فهي محكومة بالطهارة.

(درس 23): الوضوء

اشارة

اذا عرفت اقسام المياه و الطاهر و النجس منها و اردت الصلاة وجب عليك الوضوء و ينبغي لك قبله طلب الخلوة في مكان يستر عورتك عن الناظر المحترم كوجوب سترها في سائر الاحوال. و لا تجلس مستقبل القبلة و لا مستدبرها بل تجلس مشرقاً او مغرباً.

ص: 60

و يجب غسل مخرج البول بالماء و كذا المخرج الآخر. و يجوز مسحه بأجسام ثلاث طاهرة قالعة من احجار او خرق او نحوها و يكفي حينئذ عن الماء فاذا تطهرت قمت الى الوضوء فغسلت يديك الى الزندين مع البسملة و واجبات الوضوء امور:

(1) النية و هي القصد الى ايجاد هذه الاعمال بداعي القربة الى اللّه تعالى و امتثال امره و هو معنى نفساني صرف ليس للفظ مدخل فيه بل الاحسن ترك التلفظ.

(2) غسل الوجه باليد من منتهى منابت الشعر الى طرف الذقن طولًا و ما احاطت به بسطة يدك عرضاً.

(3) غسل اليمنى من المرفق الى رءوس الاصابع و اليسرى كذلك.

(4) مسح شي ء من مقدم الرأس مما يوازي الجبهة بشي ء من احدى اليدين ببلة الوضوء لا بماء جديد.

(5) مسح تمام ظهر القدمين بتمام باطن احد الكفين.

(درس 24): شروط الوضوء و موانعه

الوضوء له شروط و موانع و نواقض اما شروطه فأمور:

(1) طهارة الماء.

(2) اباحته فلو كان نجساً او مغصوباً بطل.

(3) الترتيب على النحو المتقدم و لا ترتيب بين الرجلين.

(4) الموالاة بمعنى المتابعة في الاغسال و لا يضر الفصل القليل عادة فلو غسل اللاحق بعد جفاف السابق بطل.

(5) المباشرة بنفسه مع القدرة.

(6) ان لا يكون استعمال الماء مضراً فلو كان مضراً وجب التيمم بدلًا عنه و لو كان على بعض اعضاء الوضوء جبيرة يشق نزعها مسح عليها بدل الغسل.

(7) ان يكون الوقت متسعاً للوضوء و الصلاة فلو ضاق عنهما تيمم.

(8) يجب ازالة الحاجب عن وصول الماء الى البشرة الا في الجبيرة.

(9) الغسل من الأعلى الى الأسفل فلو عكس بطل.

(10) الترتيب، هذه شروط صحة الوضوء و اضداده و موانعه.

(درس 25): نواقض الوضوء

و أما نواقض الوضوء فاشهرها اربعة: (1) النوم و البول و الريح و الغائط و اذا قدمت غسل اللاحق من الاعضاء على السابق فأعد غسل السابق و اللاحق ليحصل الترتيب و امسح رأسك و رجليك ببلة وضوءك لا بماء جديد. و اذا شككت في غسل بعض الاعضاء و مسحها فإن كان الشك قبل الفراغ من الوضوء فأت به و ان كان بعده فالوضوء صحيح و لا تلتفت الى الشك. و من تيقن و شك في صدور الناقض منه لا يلتفت الى الشك و بالعكس يجب عليه الوضوء. و يحرم مس كتابة القرآن او شي ء من اسماء اللّه تعالى بغير وضوء.

ص: 61

(درس 26): التيمم

و اذا لم يكن عندك ماء او كان استعماله مضراً بك لمرض او خوف عطش او كان الوقت ضيقاً، او كان لا يحصل الا بثمن يضر بحالك فتيمم بدل الوضوء او الغسل و صورته بعد النية ان تضرب بباطن كفيك معاً على وجه الأرض الطاهرة المباحة سواء كانت تراباً او رملًا او حجراً او حصى او نحوها مما لا يخرج عن اسم الأرض، فلا يصح بمثل الملح و القير و نحوهما من المعادن ثمّ تمسح بهما بعد الضرب على الارض جبينك من منتهى قصاص شعر الناصية الى طرف الانف الذي يلي الحاجب طولًا و من الجبين الايمن الى الايسر عرضاً بالكفين معاً. ثمّ تضرب الأرض ثانياً و تمسح ظهر الكف اليمنى باليسرى و اليسرى باليمنى من الزند الى رءوس الاصابع فالتيمم اذا ضربتان و مسحتان مسحة للجبين و مسحة للكفين، و اذا صليت بالتيمم و تمكنت بعدها من الماء فصلاتك صحيحة لا اعادة لها و لا قضاء و ان تمكنت منه قبل الركوع الأول قطعت الصلاة و توضأت و صليت و الا فأمض في صلاتك. و ينقضه كما ينقض الوضوء من الاحداث و يستباح به كما يستباح بالوضوء مع بقاء العذر.

[كتاب الصلاة]

(درس 27): مستحبات الصلاة

فاذا اكملت طهارتك من وضوء او تيمم فقم الى الصلاة التي عرفت انها عمود الدين و لها مستحبات، و واجبات.

و مستحباتها كثيرة قبلها و بعدها و في اثنائها، واهم ما يستحب قبلها الآذان و آكد منه الاقامة و هي 17 فصلًا: اللّه اكبر. اشهد الا اله الا اللّه. اشهد ان محمداً رسول اللّه. حي على الصلاة. حي على الفلاح. حس على خير العمل. قد قامت الصلاة. اللّه اكبر، كل واحد منها مرتان و يختم بلا اله الا اللّه مرة و الأحسن ايضاً مرتان.

واهم ما يستحب في اثنائها القنوت و هو رفع اليدين بالدعاء بعد القراءة قبل ركوع الثانية، و يكفي فيه من الدعاء ان تقول: (اللهم اغفر لي و لوالدي) و نحو ذلك.

واهم ما يستحب بعدها التعقيب يعني الجلوس لذكر اللّه تعالى بعدها و لو قليلًا، و نعني به ما يجوز تركه و الأرجح فعله.

و الواجب ما لا يسوغ تركه و قد يفسد العمل بدونه.

(درس 28): مقدمات الصلاة

الفرائض اليومية خمس و هي 17 ركعة اربع للظهر، و اربع للعصر، و ثلاث للمغرب، و اربع للعشاء، و اثنان للصبح. و لا تجب الا على البالغ العاقل دون الصبي و المجنون و لها مقدمات و هي شروط صحتها. و اجزاء هي مقدمات ماهيتها، و مبطلات و هي موانع تحققها.

اما الشروط فهي امور:

ص: 62

(1) الاسلام فلا تصح من الكافر حتى يسلم.

(2) الطهارة من الحدث بالوضوء او الغسل او التيمم.

(3) طهارة ثيابه و بدنه و موضع سجوده من النجاسة.

(4) الوقت و بيانه انك اذا واجهت نقطة الجنوب في العراق وجدت الشمس قد مالت الى طرف الحاجب الأيمن فقد دخل وقت الظهر و كلما بادرت فهو افضل و بعد مقدار ادائها يدخل وقت العصر و يمتد وقتهما الاجزائي الى غروب الشمس، و بعد غروبها ببضع دقائق يدخل وقت صلاة المغرب و كلما تقدمت فهو افضل و بعد مقدار ادائها يدخل وقت العشاء و يمتد وقتهما الاجزائي الى نصف الليل، و لذوي الاعذار الى الفجر، و عند ظهور النور المعترض في الافق الشرقي و هو الفجر الصادق لا المستطيل و هو الكاذب يدخل وقت صلاة الفجر و كلما تقدمت بعده فهو افضل. و يمتد وقتها الاجزائي الى طلوع الشمس. و لا تصح الصلاة قبل الوقت. و لو فاتته لعذر او عصيان او نسيان قضاها بعده.

(درس 29): مكان الصلاة و الساتر

فاذا احرزت دخول الفريضة فقم الى مكان مباح اولًا أي غير مغصوب، يمكن الاستقرار عليه، ثانياً غير نجس نجاسة تلوث الثياب و البدن، و ثالثاً و اذا كان طاهراً من كل نجاسة فهو اولى. و هذا أي المكان هو الشرط الخامس من مقدمات الصلاة و شروطها، و الشرط السادس الساتر فلا تصح الصلاة عارياً مع القدرة على الستر و لو بورق الاشجار و نحوها و لو تعذر بالكلية صلى جالساً مع عدم الامن من الناظر و قائماً مع الأمن. و يشترط في الساتر أمور:

(1) ان يكون غير مغصوب.

(2) و لا نجس.

(3) و لا من حرير محض، اما الممزوج بالقطن و نحوه فلا بأس و لو كان قليلًا.

(4) و ان لا يكون من صوف او شعر او وبر او جلد ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات كالنسور و السبع و نحوهما.

(5) و ان لا يكون منسوجاً من الذهب، فلو لم تجد ما فيه بعض هذه الموانع فصل عارياً الا ان تخاف البرد فتصلي فيه.

ص: 63

(درس 30): القبلة

فاذا تمت لك تلك المقدمات الست توجهت الى القبلة و هو الشرط السابع. و القبلة هي الكعبة المقدسة فيجب التوجه اليها في الصلاة مع العلم بها و الظن المعتبر كالبينة و خبر العدل و مع العجز عن معرفتها او الاضطرار كراكب السفينة او بيوت سكة الحديد و امثالها فيتوجه اليها قدر ما يمكن من صلاته مع عدم المشقة، و يسقط وجوب التوجه في المتعذر و الشاق و هو مورد قوله تعالى: فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ و لو انكشف بعد الصلاة انه كان مستدبر القبلة فيها اعادها و لا اعادة مع الجهل و النسيان الا في الاستدبار و هو مورد قولهم" عليه السلام": (ما بين المشرق و بين المغرب قبلة) فاذا توجهت اليها فأذن واقم كما عرفت اذا شئت، و ادخل في الصلاة.

(درس 31): اجزاء الصلاة

قد عرفت مقدمات الصلاة و شروطها و أما اجزاؤها المقومة لماهيتها فهي ايضاً امور:

(1) النية اعني القصد الى ايجاد تلك الافعال الخاصة قربة الى الله تعالى أي بداعي امتثال امره لا لغرض آخر من رياء و نحوه و هذا معنى الاخلاص الذي هو روح العبادة و هي بدونه جسم بلا روح و هو المراد بقوله تعالى: وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و النية امر بسيط جداً لا يحتاج الى اكثر من تعيين الفعل المنوي و انه ظهر او عصر او غير ذلك و ان يكون المحرك على فعله التقرب الى رضوان اللّه تعالى و لا يحتاج الى لفظ و لا الى تصور تفصيلي.

(2) القيام فتقف منتصباً أي غير منحني مستقلًا أي غير معتمد و لا مستند الى شي ء من جدار او غيره مستقراً أي غير مضطرب و لا مهتز كل ذلك مع القدرة اما مع الضرورة فلا حرج. و اذا عجز عن القيام سقط بمقدار عجزه فيصلي جالساً و اذا عجز عن الجلوس صلى مضطجعاً الى جنبه الأيمن ثمّ الأيسر ثمّ مستلقياً و يومي برأسه او بعينيه للركوع و السجود (و لا تسقط الصلاة بحال).

(3) تكبيرة افتتاح الصلاة و تسمى ايضاً (تكبيرة الاحرام) اذ بعد التلفظ يحرم اختيار قطع الصلاة بشي ء من المبطلات التي سيأتي ذكرها و صورتها (اللّه اكبر) و هي من اركان الصلاة التي تبطل بتركها عمداً و سهواً و يلزم ان يأتي بها حال القيام و الاستقبال و الستر. فلو كبر قاعداً او على غير القبلة او عارياً بطلت لو سهواً. اما مع الضرورة فلا حرج.

(4) قراءة سورة الفاتحة بتمامها، و البسملة عندنا جزء منها فلو تركها او ترك حرفاً من الفاتحة عمداً بطلت صلاته.

(5) قراءة سورة كاملة من القرآن الكريم بعد الفاتحة و لو اصغر الصور كالكوثر، و الأفضل قراءة التوحيد، و تركها عمداً تبطل الصلاة ايضاً، اما مع نسيانها او نسيان الفاتحة او شي ء منها فتصح الصلاة و يسجد بعدها سجدتي السهو. و يجب الجهر بقراءة الفاتحة و السورة

ص: 64

المتعارف في صلاة الصبح و المغرب و العشاء و الاخفات في قراءة الظهرين. و أما ما عدا القراءة من الأذكار فيتخير فيها بين الجهر و الاخفات مطلقاً. و لو اخفت في موضع وجوب الجهر او بالعكس عمداً بطلت اما جهلًا او سهواً فلا.

(6) الركوع و هو الانحناء الى ان تصل يداه الى ركبتيه و يجب فيه تسبيحة كبرى (سبحان ربي العظيم و بحمده) او ثلاث صغرى.

(7) السجود و هو وضع الجبهة على الأرض او ما انبتت غير المأكول و الملبوس او القرطاس و يجب فيه ايضاً تسبيحة كبرى (سبحان ربي الأعلى و بحمده) او ثلاث صغرى و الجلوس بينهما و بعدهما مطمئناً و السجود على سبعة اعضاء الجبهة و الكفين و الركبتين و ابهامي القدمين.

(8) التشهد مرة بعد الركعة الثانية في الثنائية و أخرى في آخر الصلاة فيما عداها و الواجب منه اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له و اشهد ان محمداً عبده و رسوله اللهم صلِّ على محمد و آل محمد.

ص: 65

(9) التسليم و الواجب واحدة من (السلام علينا و على عباد اللّه الصالحين و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته) فاذا قال الأولى استحبت الثانية و ان قال الثاني سقطت الأولى و أما (السلام عليك ايها النبي و رحمة اللّه و بركاته) فهو مستحب و لا يجزي عن الواجب و التسليم جزء من الصلاة على الأصح فلو قارنه الحدث او نحوه بطلت.

(10) الطمأنينة في جميع احوال الصلاة.

(11) الترتيب على النحو المتقدم.

(12) الموالاة و عدم الفصل الطويل بين افعالها.

(درس 32): قواطع الصلاة و مبطلاتها

(1) الحدث أي ما يوجب الغسل او الوضوء يبطلها عمداً او سهواً او جهلًا اختياراً او اضطراراً.

(2) التكفير و هو وضع احدى اليدين على الأخرى يبطلها عمداً اختياراً.

(3) الانحراف عن القبلة بكل البدن الى اليمين او الشمال او انحراف الوجه الى وراء اما انحرافه اليهما فمكروه و الاستدبار بالوجه فضلًا عن البدن مبطل مطلقاً.

(4) الكلام عمداً ما لم يكن ذكراً او دعاء بحرفين و لو مهملين او واحد ذي معنى.

(5) القهقهة عمداً اما التبسم فمكروه.

(6) البكاء بصوت على شي ء من امور الدنيا اما لو بكى تضرعاً الى اللّه تعالى ليشفي مريضه او يقضي حاجته لم يقدح و ان كان الأحوط الاجتناب ايضاً اما البكاء فيها من خشية اللّه فهو روحها و جوهرها.

(7) كل ماح لصورتها و ان لم يكن فعلًا كثيراً كالوثبة الفاحشة و شرب الدخان و النظر في كتاب و نحو ذلك.

(8) الأكل و الشرب عمداً و ان لم يكن فعلًا كثيراً و لم يمح صورتها اما لو بلع ما في فمه من الطعام المتخلف او ذوب النبات و الثلج في فمه و نزوله تدريجاً فلا يقدح و الأحوط الاجتناب.

(9) آمين آخر الحمد عمداً اختياراً على الأحوط.

(10) الشكوك المبطلة كما سيأتي.

(11) الزيادة العمدية مطلقاً او زيادة الأركان مطلقاً.

(12) النقيصة كذلك.

(درس 33): الخلل

من زاد جزء في صلاته ركناً كان او غيره بنية الجزئية لا بنية الذكر و الدعاء عمداً بطلت صلاته و النقيصة عمداً كذلك و من زاد سهواً فإن كان ركناً بطلت كركوعين في ركعة واحدة او سجودين أي اربع سجدات الا في الجماعة فيما لو رفع المأموم رأسه قبل الامام حيث يلزمه العود و لا شي ء عليه، و ان لم يكن ركناً مضت صلاته و سجد بعدها سجدتي السهو، و من نقص سهواً فإن كان ركناً اتى به ان ذكره قبل الدخول في ركن آخر و الا بطلت. فلو

ص: 66

نسي الركوع و ذكر قبل السجدة الثانية عاد و اتى به ثمّ بالسجدتين ثمّ بسجدتي السهو بعد الصلاة و الا استأنف صلاته و ان لم يكن ركناً اتى به و بما بعده ما لم يدخل في ركن و الا مضت صلاته و سجد بعدها سجدتي السهو و لا يقضي من الأجزاء المنسية الواجبة سوى التشهد و اجزائه و السجدة الواحدة.

(درس 34): الشكوك في الصلاة

و لا تكاد تنضبط صورها الممكنة عقلًا و لكن يمكن حصر عام البلوى منها في ثلاثة انواع:

(1) ما لا يعتد به و لا يحتاج الى علاج.

(2) ما يعتد به فيبطل و ليس له علاج.

(3) ما لا يبطل و لكن يحتاج الى علاج و لكل منها خمس صور، اما صور الأول:

(1) الشك بعد خروج الوقت في اصل فعلها او في شي ء من افعالها او شرائطها.

(2) الشك في فعل او قول ركن او غيره تجاوز محله و الدخول في غيره واجباً كان الغير او مستحباً فعلًا او مقدمة فعل حتى الهوي الى الركوع او السجود على الأقوى.

ص: 67

(3) الشك بعد الفراغ أي بعد السلام الواجب.

(4) شك كثير الشك و هو من تعاقبت عليه في صلاة واحدة او ثلاث ثلاثة شكوك فإنه يصير بعدها كثير الشك فلا يلتفت الى شكه و لو كان في صلاة اخرى ما لم تمض عليه ثلاث صلوات سالمة و هكذا.

(5) الشك مع قيام امارة شرعية على الصحة و ان لم تفد الظن خاصة في باب الصلاة كشك الامام مع حفظ المأموم و العكس او عامة كالبينة و نحوها.

و أما صور النوع الثاني:

(1) الشك في ما عدا الرباعية ثلاثية كالمغرب او ثنائية واجبة كالصبح و الجمعة و العيدين و الآيات و الطواف و اليومية المقصورة عدا صلاة الاحتياط، نعم المقصورة في مواضع التمييز يمكن القول بجريان الشكوك الصحيحة في بعض صورها و ان كان الأحوط الاعادة.

(2) الشك في الاوليين من الرباعية مطلقاً حتى في الأخيرتين منها فلا يختص شكها المبطل بالشك قبل اكمال السجدتين من الثانية.

(3) الشك المقرون بالعلم الاجمالي بين الزيادة و النقيصة كالشك بين الثلاث و الخمس بعد الجلوس من السجدتين اما حال القيام فيمكن تصحيحه.

(4) الشك المنتهي الى العلم التفصيلي بالبطلان كالمردد بين الزائد على الأربع مثل ما لو شك انها خمس او ست و هو جالس ايضاً و هكذا.

(5) لو شك في عدد غير محصور يعني لم يدر كم صلى فالشك في هذه الصور مبطل للصلاة موجب للاستيناف و لكن بعد استقراره لا بمجرد خطوره كما انه أي الخطور في الصور السابقة لا يلتفت اليه و يبني على الصحة و فراغ الذمة.

و أما صور النوع الثالث:

(1) الشك بين الاثنين و الثلاث حال الجلوس فاذا استقر شكه بني على الثلاث و اتم و احتاط بركعتين من جلوس او ركعة من قيام.

(2) الشك بين الثلاث و الأربع حال القيام او الجلوس بني على الأربع و اتم و احتاط كما سبق.

(3) الشك بين الاثنين و الأربع حال الجلوس بني على الأربع و احتاط بركعتين من قيام.

(4) الشك بين الاثنين بعد اكمال السجدتين و بين الثلاث و الأربع بني على الأربع و احتاط بركعتين قائماً و ركعتين جالساً.

(5) بين الأربع و الخمس فإن كان في القيام قبل الركوع هدم و عاد الى الشك بين الثلاث و الأربع فيبني على الأربع و يتم عمله و ان كان بعد اكمال السجدتين بني على الأربع ايضاً و اتم و سجد سجدتي السهو و ان كان بعد الركوع قبل السجود فالأقوى البطلان، و هي داخلة في الصورة السابقة.

(درس 35): سجدتا السهو

مع انها تجب لكل زيادة و نقيصة، تجب ايضاً في خمسة موارد منصوصة:

(1) في التكلم سهواً.

(2) في السلام في غير محله يعني احدى الصيغتين مع اتمامها و لا تجب في المستحب.

(3) التشهد المنسي او ابعاضه و السجدة الواحدة.

ص: 68

(4) في الشك بين الاربع و الخمس كما مر.

(5) القيام في موضع القعود او العكس، و كيفيتها ينوي و يكبر ثمّ يسجد و يقول مطمئناً: (بسم اللّه و بالله و صلى اللّه على محمد و آل محمد) ثمّ يرفع رأسه و يطمئن و يسجد ثانياً ثمّ يجلس و يقول: اشهد ان لا اله الا اللّه و اشهد ان محمداً عبده و رسوله اللهم صل على محمد و آل محمد و يسلم بإحدى الصيغتين.

(درس 36): افعال صلاة الاحتياط

هي النية و تكبيرة الاحرام و الفاتحة فقط اخفاتاً و الركوع و السجود و التشهد و التسليم و اذا شك فيها يبني على المصحح، و أما في اعداد النوافل فيتخير فيه بين البناء على الأقل و الأكثر و أما السهو فيها فلا حكم له بل يمضي و ان كان الأولى في نسيان السجدة او التشهد قضاؤها ايضاً اما الأجزاء و الشرائط و الموانع فهي في النافلة و الفريضة سواء عدا السورة فإنها ليست بجزء في النافلة.

(درس 37): الصوم

يجب على كل مكلف غير الحائض و النفساء و المسافر و المريض الامساك بقصد القربة الى اللّه عن تعمد الأكل و الشرب مطلقاً و عن الجماع قبلًا او دبراً انساناً او بهيمة حيّاً او ميتاً فاعلًا او مفعولًا و عن الاستمناء و عن البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر او حدث الحيض و النفاس و الاستحاضة بل يجب الغسل مع النقاء قبله و عن معاودة الجنب النوم مرتين قبل الفجر بعد انتباهتين و عن ايصال الغبار الغليظ الى الجوف، في كل يوم من شهر رمضان من طلوع الفجر الى ذهاب الحمرة المشرقية على الأحوط فلو اخل في شي ء منها وجب عليه القضاء و الكفارة، و يجب القضاء فقط لو عاد بعد انتباهه او تعمد القي او احتقن بالمائع و الأقوى كراهة رمس الرأس في الماء و الأحوط الاجتناب، اما الكذب على رسول اللّه و الأئمة صلوات اللّه عليهم فتتأكد حرمته و الأحوط القضاء معه و يثبت شهر رمضان برؤية الهلال او بشهادة عدلين او بحكم المجتهد الجامع للشرائط او الشياع فضلًا عن التواتر المفيد للعلم او بإكمال عدة شعبان و مثله هلال شوال و لا يقع في شهر رمضان غيره و لو نوي غيره لم يقع عنه و لا عن رمضان و الأولى في يوم الشك صومه بنية القربة بلا تعيين و يجزي عن رمضان لو صادفه و لا حاجة ايضاً في شهر رمضان الى تعيين بل ينوي صوم هذا اليوم قربة الى اللّه تعالى و هي كما عرفت الداعي بلا لفظ و لا اخطار و تجوز من اول الليل و تتضيق عند الفجر و تمتد في المسافر و الغافل و قضاء رمضان و غيره من انواع الصوم الواجب الى الزوال و يلزم في غيره التعيين و كفارة افطار رمضان كبرى مخيرة بين العتق و الصيام ستين يوماً او اطعام ستين مسكيناً، و كفارة قضاء رمضان مرتبة اطعام عشرة فإن عجز فصيام ثلاثة، و لا كفارة في شي ء من انواع الصوم الواجب غيرهما، نعم في مخالفة النذر كفارة يمين على الأقوى فيها امران عتق رقبة او اطعام عشرة مساكين فان عجز فثلاثة ايام و كفارة الجمع فيمن افطر على محرم عتق و صيام و اطعام و يسقط الصوم عن الشيخ و الشيخة وذي العطاش مع المشقة الشديدة في صومه و تجب الفدية على كل يوم بمد و كذا الحامل المقرب و المرضعة القليلة اللبن

ص: 69

و يقضي المرتد زمان ردته دون الكافر الأصلي و المخالف اذا استبصر، و قاضي شهر رمضان له الافطار قبل الزوال مع سعة الوقت فإن افطر بعده كفّر، و التتابع غير لازم في شي ء من الواجب الا في شهر رمضان وصوم الكفارة في واحد و ثلاثين يوم و النذر المعين فيه التتابع و الصوم المستحب في السفر اقل ثواباً من الحضر و يستحب الاعتكاف مطلقاً سيما في العشر الأواخر من شهر رمضان و لا يصح الا في احد المساجد الأربعة: الحرمين او الكوفة او البصرة و هو عبارة عن نية اللبث فيها ثلاثة ايام متواصلة صائماً فلا يصح الا ممن يصح منه الصوم و لا يخرج الا لضرورة شرعية او عادية او أمر راجح شرعاً كتشييع جنازة او قضاء حاجة مؤمن و نحوهما و مع الخروج لا يمشي تحت الضلال و لا يجلس و لا يصلي و يحرم عليه كلما يحرم على الصائم و له قطعه قبل الدخول في الثالث الا اذا اشترط و لم يكن واجباً بنذر و نحوه و يحرم عليه الجماع مطلقاً حتى في الليل فلو جامع كفر و في النهار تتضاعف و لو افسده و هو واجب قضاه و لو حاضت او مرض المعتكف قضياه ان كان واجباً.

(درس 38): الزكاة

اشارة

و وجوبها شديد مؤكد و هي ثانية الصلاة و تجب في تسعة اشياء:

(1) و (2) النقدين الذهب و الفضة بشرط السكة و الحول و النصاب و هو عشرون ديناراً خمسة عشر مثقال صيرفي فيوازي عشر ليرات عثمانية و الأحوط لزومها في التسع و هذا هو النصاب الأول و يجب فيه ربع العشر ربع ليرة مثلًا و لا شي ء فيما نقص عن ذلك و لو حالت عليه احوال ثمّ في اربعة دنانير بعد العشرين على ذلك القياس و لا شي ء فيما دونها اما الزائد فعلى تلك النسبة و نصاب الفضة الأول مائتا درهم و بالصيرفي مائة و خمسة مثاقيل و فيها ربع العشر خمسة ثمّ اربعون و كلما زادت فعلى هذه النسبة و لا شي ء فيما نقص فمن مضى عليه من المكلفين احد عشر شهراً و هل

ص: 70

الثاني عشر مالكاً لذلك القدر عيناً متمكناً من التصرف فيه وجبت عليه زكاته بلغ ما بلغ.

(3) و (4) و (5) الأنعام الثلاثة الابل و البقر و الغنم بشرط الملك و الحول كما مرَّ و السوم في تمامه و عدم العمل كذلك و النصاب ففي الابل اثنا عشر، (1) خمس فشاة، (2) عشر فشاتان، (3) خمسة عشر فثلاث، (4) عشرون فأربع، (5) خمسة و عشرون فخمس، (6) ست و عشرون فبنت مخاض، (7) ست و ثلاثون فبنت لبون، (8) ست و اربعون فحقة، (9) احدى و ستون فجذعة، (10) ست و سبعون فبنتا لبون، (11) احدى و تسعون فحقتان، (12) مائة و واحدة و عشرون ففي كل خمسين حقة و في كل اربعين بنت لبون بالغاً ما بلغ و يراعي اوفر العددين للفقراء ففي المائتين و خمسين خمس حقق لا ست بنات لبون و في المائة و سبعين ثلاث بنات لبون و حقة لا اربع بنات لبون و هكذا، و أما البقر فنصابان ثلاثون و فيه تبيع او تبيعة و اربعون فيه مسنة و هكذا كما مر، و أما الغنم ففيها خمسة نصب: (1) اربعون فشاة، (2) مائة و احدى و عشرون فشاتان، (3) مائتان و واحدة فثلاث شياه، (4) فثلاثمائة و واحدة فأربع شياه، (5) اربعمائة ففي كل مائة شاة و هكذا، (6) و (7) و (8) و (9) الغلات الأربع الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب بشرطين النصاب و هو خمسة اوسق يوازي ثمان وزنات و خمس حقق و نصف الا ثمانية و خمسين مثقالًا و ثلث مثقال بوزنة النجف او سبعة و عشرين وزنة و عشر حقق و خمسة و ثلاثين مثقالًا بعيار اسلامبول و ان يملكه بالزراعة و ينمو في ملكه فلو انتقل اليه بالبيع او الهبة و نحوهما فلا زكاة كما لا زكاة في الأقل و الزائد بحسابه و الواجب العشر ان سقي سيحاً او بعلا او عذباً يعني بماء السماء او بمص عروقه او نصفه ان سقي بالدوالي و القرب او النواضح او المكائن و نحوها و لكن بعد اخراج المؤن و منها حصة السلطان و لو سقي بهما فالأغلب و لو تساويا قسط و يتعلق الوجوب عند صدق الاسم و في الزبيب يصدق اسم العنب فلو تلفت قبل او انتقلت عن ملكه فلا زكاة و لا ضمان و مستحقها الأصناف الثمانية الفقراء و المساكين و هم الذين لا يملكون قوت سنتهم لهم و لعيالهم الواجبي النفقة و يكون عاجزاً عن تحصيل الكفاية بالصنعة (و العاملون عليها) و هم السعاة، (و المؤلفة قلوبهم) و هم الذي يستمالون لمساعدة المسلمين و ان كانوا كفاراً، (و في الرقاب) و هم المكاتبون و العبيد تحت الشدة، (و الغارمون) أي المدينون في غير معصية اللّه (وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ) و هو كل مصلحة او قربة عامة كبناء القناطر و المساجد (وَ ابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع به في الغربة و ان كان غنياً في وطنه و يعتبر فيما عدا المؤلفة الايمان بل و عدم التجاهر بالمعاصي و يعيد المخالف اذا دفعها لمثله و لا يجوز دفعها لواجبي النفقة و لا للهاشميين ان كان الدافع من غيرهم و لا يجب التوزيع على الأصناف و يستحب اخراجها من كل ما تنبته الأرض كما يستحب للولي اخراجها من مال الصبي الزكوي.

(درس 39): زكاة الفطرة

تجب على المكلف الحر الغني و هو مالك قوت سنته له و لعياله في كل سنة عند هلال شوال و تتضيق عند طلوع الشمس على الأحوط و الأقوى الى الزوال و يجوز تقديمها بنية القرض ثمّ الاحتساب و تقضى بعد العيد و يجب دفعها عنه و من كل من يعول به و لو تبرعاً صغيراً او كبيراً حراً او عبداً و هكذا، و قدرها عن كل واحدة نصف حقة و نصف وقية و واحد و ثلاثون مثقالًا الا حمصتين بحقة النجف التي هي تسعمائة و ثلاثة و ثلاثون مثقالًا و ثلث و بالاستانة حقتان و ثلاثة ارباع الوقية و مثقالان الا ربع و تجب فيه النية و دفعها لمستحقي زكاة

ص: 71

المال و الأفضل دفعها الى الامام" عليه السلام" و مع غيبته الى نائبه العام من المجتهدين الجامعين للشرائط و يستحب من الفقير حسب امكانه و لو بأن يصرفها على عياله و تخرج من الحنطة و الشعير و الارز و اللبن و غيرها من القوت الغالب.

(درس 40): الخمس

و هو حق آل بيت محمد صلوات اللّه عليه و عليهم و المتهاون به يخشى ان يعد من الغاصبين لحقوقهم و الظالمين لهم و يجب على كل مكلف و الأحوط ان يخرجه الولي عن الصبي من امواله التي يتعلق بها الخمس و هو في سبعة اشياء: الغنائم و الغوص

ص: 72

و المعادن و ارباح التجارات و الصناعات و الزراعات و الكنوز و ارض الذمي الذي اشتراها من مسلم و الحرام المختلط بالحلال المجهول المقدار و المالك لا يتميز مع عدم العلم بزيادته على الخمس و يعتبر في المعادن و الكنوز و النصب عشرون ديناراً بعد مئونة الاخراج و في الغوص دينار و في الأرباح ما زاد عن مئونة السنة له و لعياله مقتصداً و يجب في الزائد و يقسم الخمس من تلك الامور ستة اقسام ثلاثة للامام" عليهم السلام" و مع غيبته تدفع لنائبه و هو المجتهد الثقة الأمين و ثلاثة للفقراء و الأيتام و ابناء السبيل من السادة مع التزامهم بشريعة جدهم" ص" و فقرهم، و الانفال و هي كل ارض خربة باد اهلها و كل ارض لم يوجف عليها ب خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ و كل ارض سلمها اهلها من غير قتال و رءوس الجبال و بطون الأودية و الموات و الآجام و صوافي الملوك و قطائعهم الغير مغصوبة و ميراث من لا ورث له و الغنائم المأخوذة بغير اذن الامام" عليهم السلام" و امرها بعده لحاكم الشرع و قد اباحوا صلوات اللّه عليهم لشيعتهم خصوص المساكن و المتاجر و المناكح من الغنائم. (تنبيه) يستحب مؤكداً على ولي الصبي من ابيه و غيره تمرينه بعد السبع او التسع على الصلاة و الامتناع عن المحرمات التي فيها قبح ذاتي كالزنا و الكذب و السرقة لا نسبي كدخول المسجد جنباً و مس القرآن محدثاً و يمنعه عما فيه ضرر على ذات الفاعل كشرب الخمر و النجس و اكل الميتة، و الأحكام الشرعية كلها تشتمل على مصالح و مفاسد تعود الى نفع المكلفين و اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ و له الحمد و المجد و الفضل و المنة.

الباب الثالث: في الآداب و الأخلاق

(درس 41): النهي عن الكلام القبيح

قال سبحانه في كتابه المجيد: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ اشار تعالى الى تلازم هذه الأمور بعضها لبعض فالايمان بالله يستلزم تقوى اللّه و التقوى تستلزم سداد القول و سداد القول يستلزم صلاح يستلزم صلاح العمل. فمن لا سداد له لا تقوى له و من لا تقوى له لا ايمان له. و سداد القول هو ان تصيب به مواضع الصواب من الغرض الصحيح المشتمل على فائدة مشروعة لك او لغيرك فكل كلام خلي عن الفائدة فهو غير سديد. و هذا اول مراتب قبح الكلام كما أن لحسن الكلام مراتب مترامية في العلو فكذلك لقبحه مراتب متوالية في السقوط فأول مراتب قبحه خلوه عن الفائدة كأكثر محاوراتنا اليومية مع عشرائنا اني اكلت كذا و شربت كذا و ذهبت الى فلان و جائني فلان و امثال ذلك مما لا يعود بفائدة على السامع و لا على المتكلم و قد يكون اشد قبحاً كما لو كان مشتملًا على الفاظ السفلة و مسلوبي الحياء الذين لا يبالون بما قالوا و لا بما قيل فيهم، و اشد قبحاً من ذلك ان يكون الكلام كذباً و غير مطابق للواقع. و اشد قبحاً منها ان يكون مشتملًا على ايذاء الغير و هتك حرمته و ان كان صدقاً فضلًا عما لو كان كذباً و بهتاناً و ذلك كالسب و الفحش و التهم و التعرض لذكر عيوب الناس قال تعالى: وَ لٰا تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمٰانِ

ص: 73

و اصل النبز التعيير أي لا يدعوا بعضكم بعضاً بلقب يكرهه مثلًا لو كان رجل ابوه كناس فلا تقل هذا ابن الكناس و ان كان حقاً و قد جعل اللّه سبحانه التعاير و التنابز بالألقاب في الآية موجباً للفسق و الخروج عن الايمان و اشد قبحاً من الجميع ان تذكره في غيبته بما يسوؤه كما سبق بيانه.

(درس 42): في الكلام الكذب

اشارة

قال تعالى: تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّٰهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ و قد عرفت ان الكذب هو نقل ما يعلم الانسان انه خلاف الواقع و هو من اخس الرذائل الموجبة للانسلاخ من شرف الانسانية، و ذهاب الحياء و المروءة و السقوط من اعين الناس و لا يفلح الكاذب ابداً.

و قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ لٰا يُفْلِحُونَ* و ما عز كاذب و لو طلعت الشمس من بين عينيه، و لا ذل صادق و لو اجتمعت الناس كلهم عليه.

ص: 74

و قال بعض الائمة" عليه السلام": (

لئن يضرك الصدق و قليلًا ما فعل خيرُ من ان ينفعك الكذب و قليلًا ما فعل

) يعني ضرر الصدق و قليلًا ما يكون الصدق ضاراً (لأن النجاة في الصدق) خير من نفع الكذب و قليلًا ما يكون الكذب نافعاً.

(درس 43): اليمين الكاذب

يزداد قبح الكذب و حرمته اضعافاً مضاعفة اذا حلف الكاذب عليه و في الحديث (اليمين الغموس تذر الديار بلاقع) يعني اليمين الكاذبة تخرب الديار و تبيد اهلها و تذرها قٰاعاً صَفْصَفاً. و قال تعالى في القرآن: وَ لٰا تُطِعْ كُلَّ حَلّٰافٍ مَهِينٍ هَمّٰازٍ مَشّٰاءٍ بِنَمِيمٍ مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذٰلِكَ زَنِيمٍ و الحلف مطلقاً غير محمود صادقاً كان الحالف او كاذباً فإنه يدل على مهانة الشخص و استحقاره لنفسه و انه ممن لا يوثق بكلامه حتى يعضده باليمين و هو مما يوجب ريبة السامع ايضاً و الا فالصادق مستغن عن ذلك فإن الحق رهين بتصديقه لا اليمين و من لا يبالي بالكذب لا يبالي باليمين فاليمين عبث صرف.

(درس 44): في النهي عن الاسراف في الأكل و الشرب

قال تعالى: يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لٰا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قال امامنا زين العابدين" عليهم السلام": (جمع اللّه الطب في كلمتين: (كُلُوا ... وَ لٰا تُسْرِفُوا))، و ما اصدق ما قال فإن الانسان لو واظب على الاقتصاد في اكله و شربه لم يمرض ابداً و لعاش عمره الطبيعي متمتعاً بنعيم الصحة و العافية التي لا تقدر بثمن فان جميع الأمراض تنشأ في الأغلب من زيادة الأكل على مقدار حاجة البدن، و ما تتحمله القوة الهاضمة، فتستحيل تلك الزيادة التي تعجز الطبيعة عن اكمال التصرف فيها الى فضلات فتاكة و سموم مهلكة تثير على الأعضاء الرئيسية من الجسم، كالقلب و الكبد و الرئة حرباً شعواء بأمراض مختلفة قد تؤدي الى الهلاك.

(درس 45): في الصحة

اشارة

الصحة رأس مال الإنسان و مادة حياته و أساس وجوده فإذا اختلت صحته اختل وجوده و فسد عقله و قد قالوا و حقاً ما قالوا العقل الصحيح في الجسد الصحيح ثمّ بعد اختلال صحته اما ان يعود فريسة للموت او يبقى برهة من الأيام منغص الحياة رهين العلل و الاسقام، و اكبر سبب في فقد الصحة هو ما عرفت من الاسراف في الأكل و حقيقة الاسراف تضييع الوسط و الانحراف عن نقطة الاعتدال فمن اعطى جسمه من الأكل دون مقدار حاجته و اقل

ص: 75

من كفايته فقد اسرف كإسراف من اعطاه فوق حاجته و اكثر من قابليته، كل منهما يوجب اختلال الصحة و فقد الحياة و القوة لأنهما طرفا افراط و تفريط و خروج عن الاعتدال (1).

(درس 46): الاعتدال في الطعام

حيث ان الأكثر في الناس انهم يأكلون اكثر ما يحتاجون اليه طلباً للتلذذ و التنعم غافلين عن الحكمة السامية في الكلمة المعروفة (ان الانسان يأكل ليعيش لا يعش ليأكل). و الشهية غالباً اكثر من الحاجة فالمنهومون يشتهون الأكل غالباً و هم غير محتاجين اليه لذلك وجب نصب ميزان لكل انسان كي يزن به مقدار حاجته الى الأكل حتى لا يتجاوزه فيقع في المهالك و احسن ميزان، و اصح معيار، للأكل النافع و تعيين مقدار الواجب منه للبدن، ان لا يأكل الانسان الا وقت احساسه بفراغ معدته و استكمال شهيته الى الطعام، فلا يكتفي بالشهوة وحدها و لا بالفراغ وحده، فإن الشهوة كما عرفت هي التي تحمل الانسان غالباً على ان يأكل اكثر من حاجته فتطرحه على فراش العلل و الاسقام. كما ان الفراغ مع عدم الشهوة يوجب كون الطعام ثقلًا على الطبيعة فلا تتوجه الى هضمه الصحيح لعدم ميلها اليه فاللازم ان لا يأكل الا مع الحاجة و الرغبة. و اذا اكل مع هذين الوصفين فاللازم ان يرفع يده مع بقاء شي ء من الشهوة و لا يستقصيها و هذا هو الميزان الصحيح لمقدار الأكل النافع المشار اليه في بعض الأحاديث: (كل و انت تشتهي و قم و انت تشتهي) و اعلى منه قوله" عليهم السلام" و هو من جوامع الكلم و معجزات الحكمة: (المعدة بيت الداء و الحمية رأس كل دواء). و قوله" ص": (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه و يكفي المؤمن لقيمات يقيم بها صلبه)، فيجب على كل انسان ان يضع هذه الحكم السامية نصب عينيه دائماً ليتمتع بنعيم الصحة و العافية طول عمره ان شاء اللّه.

(درس 47): آداب الأكل

للأكل آداب شرعية كلها تعود الى منافع صحية و تدابير للحياة ذات اهمية. اهمها غسل اليدين قبل الأكل و بعده واهم منها تصغير اللقم و تجويد المضغ قال امير المؤمنين" عليهم السلام" في جهة آداب الأكل: (صغر اللقم و جوّد المضغ).

و انت تعلم ان الصانع الحكيم الذي صنع بباهر حكمته و قاهر قدرته هذا الهيكل الانساني قد جعل لكل عضو من اعضائه وظيفة تخصه و لا يقوم بها غيره فوظيفة الفم و الاسنان الهضم الأول للطعام و المعدة لها وظيفة اخرى من العمل و تحويل ما يصل اليها بعد استكمال الوظيفة الأولى فيه الى لحم و دم يكون بدل ما يتحلل من البدن فإذا انحدر الطعام


1- ينفق علماء الطب و علماء النفس في العصر الحاضر على وجود علاقة وثيقة بين العقل و الجسم، و ينبغي التسليم بأن العقل السليم في الجسم السليم و بالعكس فإن الجسم السليم في العقل السليم. و كما ان المرض الجسمي الحقيقي يشل الفكر و العقل، كذلك فإن الهموم و القلق النفسي والوهم و الوسوسة و الخيال و المشاكل الشخصية و الانفعالات الشديدة و العواطف السيئة التي تطرأ للفرد تضر بجسمه ضرراً بالغاً، و تجعله قابلًا لمختلف الامراض المايكروبية المعدية او الأمراض العضوية غير المعدية. و تتوقف الحالة العقلية السليمة للفرد على حسن تربيته في الصغر و تلبية حاجاته العضوية و النفسية في الصغر و الكبر و لا يتم ذلك الا في بيئة اجتماعية صالحة موجهة نحو الخير و البناء و الابداع خالية من الظلم و الاستغلال و الشرور.

ص: 76

من الفم الى المعدة غير تام المضغ كابدت المعدة ما ليس من وظيفتها و اشتغلت بذلك عما يخصها من وظيفتها و هذا ينهكها بل يهلكها و ينشأ من ذلك حدوث امراض لا علاج لها فتجويد المضغ و تصغير اللقم المعين له له الغاية القصوى من الاهمية في حفظ الصحة و ضبط اصول العافية.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.